
سابقة مهمّة، أن يلتقي مباشرةً ممثّل رسمي، مخوّل من الرئيس الأميركي، ومسؤول رفيع المستوى في حركة حماس. أهمّية هذا الاختراق كبيرة من ناحية أنه لقاء في الدوحة مباشر بين الممثّل الأقوى المساند لدولة الاحتلال، وممثّل عن المقاومة (وإن في إطار صفقة التبادل). ورغم أن الضغوط الإسرائيلية المؤيّدة لدولة الاحتلال في الولايات المتحدة أجبرت إدارة ترامب على التراجع المؤقّت عن محاولة تثبيت المفاوض الأميركي المقرّب من ترامب، آدم سميث بولر، إلا أن الأمر خرج عن إرادة إسرائيل، كما رأينا قبول "حماس" اقتراح إطلاق سراح جندي مزدوج الجنسية (الولايات المتحدة وإسرائيل). وربّما الصعوبة التي واجهت المفاوض الأميركي ليس أنه فقط لقاء ممثّل عن حركة مقاومة مسلّحة فلسطينية (تعتبرها أميركا وإسرائيل إرهابيةً)، ولكن ما قاله بولر، وهو مبعوث خاص للرئيس الأميركي، في ملفّ الرهائن لشبكة سي أن أن، ردّاً على سؤال عن رفض كبار القادة الإسرائيليين اجتماعاته، إن الولايات المتحدة "ليست وكيلاً لإسرائيل".
ما جرى في الدوحة محاولةًُ مهمةً لكسر احتكار إسرائيل الرواية ونقلها إلى الطرف الأميركي
كان ما جرى في الدوحة محاولةً مهمةً لكسر احتكار إسرائيل الرواية ونقلها إلى الطرف الأميركي. ويذكّر هذا الأمر بعديد من محاولات المحتلّ الإسرائيلي شبه اليومية لفرض جبروته بسلاح التنمّر والقمع للشعب الفلسطيني تحت الاحتلال. أذكر حالات عديدة واجهتها ضمن تغطية الانتفاضة، وعكست هذه العقلية الاحتلالية فيما يتعلّق بالشعب تحت الاحتلال. كنتُ أسافر في الأراضي المحتلّة برفقة صحافي أجنبي، عندما أوقفنا الجيش الإسرائيلي. أوّل ما فعلوه فصلنا، لأنّهم كانوا يعلمون أنهم لا يستطيعون مضايقتي بالطريقة التي يرغبون بها مع وجود أجنبي، وبخاصة صحافي. وباستثناء محاولة تنمّر وصفعة على وجهي، تمكّنتُ من العودة إلى زميلي من دون أيّ ضرر. لكن تلك الحادثة، التي تكرّرت في ظروف مختلفة أكثر من مرّة، كانت دليلاً لي على سعي المحتل الدائم للسيطرة، ولتحقيق ذلك، عليه إبعاد أيّ شخص يستطيع إضعاف العلاقة الساحقة بين المحتلّ ومَن يحتلّه. وجود طرف ثالث، حتى لو كان متحيّزاً للاحتلال، كالولايات المتحدة، يسهم جزئياً في تعديل المعادلة غير المتكافئة القائمة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
تتجلّى محاولة احتكار الرواية بشكل أوضح في طريقة تعامل إسرائيل مع وسائل الإعلام كافّة، فالصحافيون الفلسطينيون لا يُعترف بهم وبأنهم جزء من السلطة الرابعة، بل يجري التعامل مع الصحافي إرهابياً. وفي حدود ما أعرف، لم يُصدر المكتب الصحافي الحكومي الإسرائيلي بطاقةً صحافيةً لأيّ صحافي فلسطيني يعمل في وسيلة إعلامية فلسطينية. وأخيراً، حتى قناة الجزيرة، التي سُمح لها سابقاً بالعمل قناةً إعلاميةً دوليةً، مُنعت من العمل بسبب قانونٍ مُناهض لحرّية الصحافة في إسرائيل. ومع ذلك، ربّما يكون أفضل مثال على هذا الجهد الإسرائيلي الشرس للسيطرة على الرواية الموجّهة إلى العالم الخارجي كيفية تعامل الجيش الإسرائيلي والسياسة الخارجية الإسرائيلية مع الحرب على غزّة. فلأكثر من 17 شهراً، رفضت إسرائيل السماح لصحافي أجنبي واحد بدخول غزّة. كما قتلت نحو مئتي صحافي فلسطيني، ودمّرت مباني لمكاتب إعلامية، في محاولة واضحة لإسكات الحقيقة. كما أنفقت وزارة الخارجية مئات ملايين الدولارات على ترهيب السياسيين والصحافة الأجنبية لقبول روايتها الخاصّة، التي تضمّنت أحياناً تغذية البيت الأبيض بقصصٍ كاذبة عن أطفالٍ يُحرقون في أفران واغتصابات جماعية، من دون خجل أو اعتذار عن إحراج حليفهم الوحيد والقوي.
من الضروري أن يكون الجميع على يقين بأهمية اللقاءات العربية الأميركية على المستويات كافّة، وبصورة مستمرّة
لا تخجل إسرائيل من الكذب وتشويه الحقائق على الأرض باستمرار، حتى مع وجود دليلٍ بصريٍّ قاطع على عكس ذلك. بتحريفها الواقع لتبرير جرائم الحرب المستمرّة، سعت إسرائيل إلى ضمان إفلاتها من العقاب على جرائم القتل. تخيّل، على سبيل المثال، إجبار أحد أعرق وسائل الإعلام العالمية، هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، على سحب فيلم وثائقي قوي حاصل على جوائز لمجرّد أن طفل أحد رواة البرنامج هو ابن عمّ شخصية فلسطينية على علاقة ما بحركة حماس. وفي حالة المفاوضات، استخدمت إسرائيل أيضاً التكتيك نفسه لإرباك المفاوضين وتضليلهم، لتصديق ما تريد منهم تصديقه بشأن موقف "حماس" من مختلف القضايا، كما إغراق موجات الأثير بمختلف الأكاذيب، ما سبب حالةً من الصمت في الرأي العام تسمح لهم بالإفلات بما يريدون. الغريب أن بعض الجمهور الإسرائيلي، وخاصّة عائلات الرهائن، أدركوا، في نهاية المطاف، ما يحدُث، وتمكّنوا من دحض أكاذيب حكومتهم المتواصلة. وفي الغالب، كانت الولايات المتحدة، بمن في ذلك بعض الأشخاص في البيت الأبيض، الذين يعتمدون على قناة معلومات واحدة فقط، مخدوعين باستمرار للاعتقاد أن "حماس" دائماً العائق في كلّ محاولة لإطلاق سراح رهائن. ولكن، في اللحظة التي التقى فيها ممثّل للجانب الأميركي بمسؤول من "حماس"، من دون وجود أيّ إسرائيلي (يحرّف الرواية)، أعلن الأميركي تقدّماً كبير، كما صرّح بدقة أن وظيفته تمثيل المصالح الأميركية، وأنه ليس عميلاً لإسرائيل، في سخريةٍ واضحةٍ من صهاينةٍ عديدين ذوي نفوذ في إدارة ترامب.
ليس من الواضح ما إذا كانت الولايات المتحدة ستواصل جهودها في المفاوضات المباشرة، فقد صرّح وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، وهو عضو مؤيّد لإسرائيل في الحكومة الأميركية، إن الاجتماع كان مرّة واحدة ولن يتكرّر. قد يكون الأمر كذلك، لكن المارد خرج من القمقم، والأميركيون يدركون مباشرةً مدّة خداع إسرائيل لهم ومداه. مع ذلك، محاولة إنهاء جهد بدا وكأنه يُحرز تقدّماً، تُعدّ، في حدّ ذاتها، دليلاً على سعي إسرائيل إلى مواصلة احتكار الرواية، حتى مع أفضل حلفائها، الولايات المتحدة. إذا استمرّ تعثر محادثات وقف إطلاق النار الدائم وإنهاء الحرب على غزّة في التعثّر، فليس مؤكداً أن البيت الأبيض لن يحاول إعادة إرسال مبعوثه لمعرفة المزيد مباشرةً من "حماس". لا ينبغي الاستخفاف بالقوة الإسرائيلية، سواء في الأراضي المحتلة، أو في أروقة السلطة في واشنطن، ولكنّ محاولة احتكار الرواية لا يمكن أن تستمرّ إلى الأبد، مهما عجزت وسائل الإعلام والسياسيون الأميركيون عن التخلّص من آلة الهيمنة المؤيدة لإسرائيل، التي تُدير أميركا، وتُعرّض ضماناتها الدستورية (كما في حالة محمود خليل) للخطر.
قد يكون خطاً أن يُعطى الحدث أكثر ممّا يستحقّ، ولكن من الضروري أن يكون الجميع على يقين بأهمية اللقاءات العربية الأميركية على المستويات كافّة، وبصورة مستمرّة لكسر الهيمنة الاحتلالية ولتصحيح العلاقة غير المتكافئة.
