كيف صاغ اليمنيون نموذجهم الفريد في مقاومة الاستعمار؟
Party
3 days ago
share

 

تختزن الذاكرة الوطنية اليمنية صفحاتٍ طويلة من الصراع المستمر مع القوى الأجنبية التي حاولت الهيمنة على البلاد، لم يكن هذا الصراع ظرفًا عابرًا، بل امتدادًا عميقًا لجذور المقاومة التي تسكن الوعي اليمني منذ القدم. فقد واجه اليمنيون عبر القرون محاولات السيطرة بكل أشكالها، وصاغوا تاريخهم بأيديهم وإرادتهم الحرة.

 

ومن رحم هذا التاريخ الطويل، فهم اليمنيون أن الحرية لا تمنح، بل حق يُنتزع، ونشأت خبرة متراكمة في مواجهة المستعمر، وتجذرت في وجدان الشعب اليمني قناعة راسخة، وقد تجسّدت هذه الخبرة في مواجهة الإمبراطورية البريطانية، التي استمرت سيطرتها على الجنوب لأكثر من 130 عامًا.

 

وخلال خمس سنوات منذ اندلاع الثورة في 14 أكتوبر 1963، وحتى خروج آخر جندي بريطاني في 30 نوفمبر 1967، سطر اليمنيون فصولًا مشرقة في كتاب التحرر، وكان طردهم للإمبراطورية الإنجليزية بعد كفاحٍ مسلحٍ طويل واحدة من أبرز هذه الفصول، وهي شاهدةً على قدرة الشعب على الصمود والتحدي.

 

وفي تأريخ اليمن الطويل عرفت اليمن بأنها "مقبرة الغزاة"، لذا فإن اليمني الذي سبق له أن هزم أعظم إمبراطورية استعمارية في التاريخ، يظل اليوم، كما كان بالأمس قادراً على مواجهة أي أطماع نفوذ، مهما حاولت فرض إرادتها، في أي زمان ومكان.

 

عظمة ثورة 14 أكتوبر

 

مثّلت ثورة الرابع عشر من أكتوبر لحظة وعي وطني شامل، أظهرت قدرة الشعب اليمني على تحويل المعاناة إلى قوة مقاومة، احتلت بريطانيا عدن ومحمياتها لأكثر من قرن وربع، وأنشأت نظامًا يخدم مصالحها الاستراتيجية ويقيد حرية السكان، لكنها لم تستطع كسر إرادة اليمنيين الذين أدركوا أن الاستقلال لا يُمنح، بل يُنتزع.

 

انطلقت شرارة الثورة من جبال ردفان، وسرعان ما امتدت لتشمل المدن والمناطق كافة، لتتحول إلى حركة تحرر واسعة استندت إلى تراكم طويل من رفض الهيمنة الخارجية، وتطورت هذه الحركة مع الوقت إلى مشروع وطني جامع جمع العمال والمثقفين والمقاتلين تحت هدف واحد: إنهاء الاستعمار.

 

لم يكن نجاح الثورة في طرد الاحتلال نتاج قوة عسكرية، إذ لا مجال للمقارنة أصلا، بل كان انعكاس لوحدة الصف الوطني، والطابع الجماهيري الواسع للحركة، والمرونة الميدانية التي أظهرها الثوار في مواجهة جيش نظامي ضخم. هذه التجربة أثبتت أن القوة العسكرية مهما بلغت لا تستطيع الانتصار على شعب يقاتل من أجل حريته وكرامته.

 

السمات العميقة للمقاومة الدائمة

 

جسّدت ثورة أكتوبر روح الشخصية اليمنية منذ القدم التي تتجلّى في مجموعة من القيم التي تجعل اليمني عصيًا على الخضوع لأي قوة خارجية. في طليعة هذه القيم، الرفض الجذري للتبعية، فاليمني يعتز بكرامته وسيادته ولا يقبل أن يكون تابعًا أو رهينة لإرادة الغير، وهذه السمة ليست سياسية فقط، بل أخلاقية واجتماعية، إذ تنبع من إيمان راسخ بأن الحرية شرط للوجود.

 

وتتجلى القيمة الثانية في الصلابة والتضحية، إذ نشأ اليمنيون في بيئة صعبة فرضت عليهم الصبر والتحمل، ومنحتهم قدرة عالية على الصمود أمام الحروب والحصار والشدائد.

 

وأخيرا، الإرادة الشعبية المسلحة، إذ امتلك اليمن بنية اجتماعية قادرة على التعبئة السريعة، كما أن الثقافة القتالية المنتشرة جعلت المواطن جزءًا من منظومة دفاعية شعبية، مما جعل الاحتلال العسكري المباشر مكلفًا ومستحيلًا على المدى الطويل.

 

هذه السمات ليست مجرد إرث من الماضي، بل مكونات حية في الحاضر، إذ تجعل روح أكتوبر قادرة على التجدد في كل منعطف تاريخي تمر به البلاد، وتضمن أن القدرة على المقاومة تظل حاضرة في الوعي الوطني اليمني مهما تغيرت الظروف أو القوى المحيطة.

 

أشكال المقاومة ضد الاستعمار البريطاني

 

منذ أن وطأت أقدام البريطانيين ميناء عدن في التاسع عشر من يناير 1839، بدأت واحدة من أطول وأعقد فترات المواجهة بين قوة استعمارية عالمية وشعب بسيط محدود الإمكانات، لكنه شديد الإيمان بحقه في الحرية.

 

لم يكن الاحتلال قدرًا محتومًا لليمنيين، بل تحديًا متجددًا يواجهونه بأشكال متعددة من المقاومة، تنوّعت بين السلاح والكلمة، وبين المواجهة الميدانية والاحتجاج الشعبي، دون أن تفقد هدفها الجامع: الاستقلال الكامل.

 

في النصف الأول من القرن العشرين، أخذت المقاومة المدنية والسياسية شكلها المنظم، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية. شهدت عدن وبقية مدن الجنوب ميلاد النوادي الثقافية والعمالية التي تحولت إلى منابر للوعي الوطني، مثل "نادي الاتحاد" و"نقابة عمال الميناء"، اللذين لعبا دورًا محوريًا في رفع مستوى الوعي بخطورة الوجود البريطاني، وتنظيم الإضرابات والمظاهرات التي أربكت الإدارة الاستعمارية.

 

بلغت الاحتجاجات ذروتها عام 1956، عندما قاد العمال سلسلة من الإضرابات للمطالبة بحقوقهم، لتكتسب بعدًا سياسيًا واضحًا، إذ رفعت فيها لأول مرة شعارات تطالب بالجلاء التام عن الجنوب.

 

وقد وثّق الرئيس قحطان الشعبي، في كتابه «الاستعمار البريطاني ومعركتنا العربية في جنوب اليمن»، أن سلطات الاحتلال لجأت إلى إصدار سلسلة من القوانين المجحفة بحق الشعب بهدف القضاء على الحركة الوطنية ومصادرة الحريات العامة. فقد سُنّت تشريعات تحظر جمع التبرعات تحت أي مسمى، وفرضت قيودًا على الهجرة إلى عدن، إضافة إلى ما سماه الشعبي “قانون تعدين المواطنة”، الذي منح الأجانب الجنسية العدنية لتغيير التركيبة السكانية والسيطرة على مفاصل المدينة الحيوية.

 

ولم تكتفِ بهذا، وفق الشعبي، بل فرضت حالة الطوارئ لفترات طويلة، وأصدرت تشريعات تمنع الإضرابات وتفرض التحكيم الإجباري في القضايا العمالية، إلى جانب إنشاء محاكم صناعية خاضعة بالكامل للسلطة الاستعمارية. كانت هذه الإجراءات أكبر من مجرد قوانين إدارية، بل أدوات سياسية قمعية تهدف إلى كسر أي شكل من أشكال المعارضة، وتكريس السيطرة الاقتصادية والاجتماعية على الجنوب.

 

وإلى جانب ذلك، عمل البريطانيون على تغذية الانقسامات السياسية من خلال تشجيع أحزاب موالية لهم لتفتيت الصف الوطني وتشويه الحركة الثورية حتى وصل عدد هذه الأحزاب، وفقًا لقحطان الشعبي، إلى نحو خمسة عشر حزبًا، جميعها تلقت دعمًا مباشرًا من الإدارة الاستعمارية.

 

المقاومة المسلحة والتحول إلى الثورة

 

ومع تصاعد القمع البريطاني واعتماد سياسة "فرّق تسد" بين السلطنات والمشيخات، وتشكيل قوات محلية موالية لقمع الانتفاضات، انتقلت المقاومة إلى طورٍ أكثر حسمًا: المقاومة المسلحة. منذ مطلع ستينيات القرن الماضي، ظهرت مجموعات فدائية صغيرة في عدن ولحج وأبين وشبوة، تشن هجمات على الدوريات العسكرية البريطانية.

 

في غضون ذلك، ومع اندلاع ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962 في الشمال، وجد أبناء الجنوب في هذا الحدث الشرارة التي ألهبت فيهم الإيمان بقدرتهم على التحرر. وما إن حل عام 1963 حتى انطلقت ثورة الرابع عشر من أكتوبر من جبال ردفان، معلنة تحوّل مرحلة التظاهرات إلى كفاح مسلح منظم شاركت فيه فصائل متعددة تحت راية هدف واحد هو الاستقلال الكامل.

 

وكما قال السياسي عبد الله باذيب "أن ثورة 14 أكتوبر كانت نتيجة طبيعية لتطور حركة التحرر الوطنية في الجنوب اليمني، واستمراراً للنمو اللاحق للثورة في الشمال، وقد وضع الأحرار في جنوب اليمن مهمة الدفاع عن ثورة 26 سبتمبر في الشمال على عاتقهم كون أن الأرض واحدة إضافةً إلى أن الثورة المُسلحة في الجنوب دون تغيير الأوضاع في الشمال عبارة عن مُغامرة".

 

حاولت بريطانيا بكل ما تملكه من ترسانة عسكرية وخبرة استعمارية إخماد الثورة، فاعتمدت القصف الجوي للقرى، وعمليات الترحيل القسري، واعتقال المئات من النشطاء، لكنها لم تتمكن من كسر الروح الوطنية.

 

ومع كل حملة قمع كانت الثورة تتوسع وتتولد إرادة جديدة للمقاومة، وبين عامي 1964 و1966 شهدت عدن موجة من العمليات الفدائية المنظمة التي استهدفت مواقع القيادة البريطانية ومراكز الشرطة، لتتحول المدينة إلى ساحة حرب مفتوحة جعلت الاحتلال يعيش في قلق دائم.

 

في الوقت ذاته، برزت أدوار المرأة اليمنية في دعم الثورة، سواء عبر التمريض السري للمقاتلين أو إيصال الرسائل والمساعدات للمناطق المحاصرة، مما أكسب الكفاح الوطني بعدًا اجتماعيًا شاملاً. وبحلول عام 1967، ومع تزايد الضغط السياسي والعسكري، أدركت بريطانيا أن وجودها في عدن لم يعد ممكنًا، وأن مشروعها في جنوب الجزيرة العربية قد فشل أمام تصميم اليمنيين الذين لم ترهبهم القوة ولا أغرتهم الوعود.

 

لقد أثبتت تجربة المقاومة اليمنية أن الكفاح لم يكن عشوائيًا ولا طارئًا، بل وعيًا متراكمًا تطور من الاحتجاج إلى التنظيم، ومن التنظيم إلى الثورة. فشل بريطانيا لم يكن مجرد هزيمة عسكرية، بل فشل في فهم طبيعة الإنسان اليمني الذي يرى في الحرية جزءًا من كيانه، لا شعارًا سياسيًا. ومهما حاولت القوى الاستعمارية استغلال الانقسامات أو بناء ميليشيات محلية لخدمة مصالحها، ظلت روح الكفاح أقوى من كل محاولات التشتيت، لتستمر جذوة المقاومة مشتعلة حتى تحقيق الاستقلال في الثلاثين من نوفمبر 1967.

 

 

إرادة لا تُقهر وصناعة التاريخ بالإصرار

 

تقدّم محطات الكفاح اليمني ضد الاستعمار البريطاني أكثر من مجرد سجل للنضال الوطني؛ فهي دليل حيّ على ثبات الإرادة اليمنية وقدرتها على صناعة مصيرها بيديها، مهما بدت موازين القوة غير متكافئة.

 

لقد واجه اليمنيون أعظم الإمبراطوريات في التاريخ الحديث، ولم يملكوا سوى الإيمان والوعي وبعض البنادق القديمة. ومع ذلك، حوّلوا هذا القليل إلى طاقة مقاومة هائلة هزّت أركان المستعمر، وأثبتت أن الاحتلال مهما طال عمره لا يستطيع أن ينتزع روح الإنسان الحرة.

 

ولم تكن روح المقاومة حدثًا عابرًا أو رد فعل مؤقتًا، بل امتدادًا لسلسلة طويلة من الوعي التاريخي الذي سكن وجدان اليمنيين منذ قرون.

 

إن هذه الحقيقة تظل رصيدًا حضاريًا حيًّا يذكّر الأجيال أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع بالإصرار والإيمان، وأن اليمني الذي أسقط الإمامة في الشمال وطرد الاستعمار من الجنوب قادر دائمًا على كتابة تاريخه بيده، مهما تغيرت الظروف أو القوى التي تحاول فرض سيطرتها عليه.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows