
لم تمضِ ساعات على إعلان اتفاق وقف الحرب في غزة حتى خرج زعيم مليشيا الحوثي الإرهابية، عبدالملك الحوثي، بخطاب متجهم يرفض فيه السلام ويؤكد أن “المعركة مستمرة”، في مشهدٍ بدت فيه المليشيا وكأنها الخاسر الأكبر من نهاية الحرب التي كانت تتغذى عليها سياسيًا وإعلاميًا.
أظهر الخطاب، بحسب مراقبين، حجم القلق داخل المليشيا التي فقدت فجأة الغطاء الذي استخدمته لتبرير قمعها وانتهاكاتها ضد اليمنيين طيلة العامين الماضيين، إذ كانت حرب غزة ذريعة جاهزة تغسل بها كل جرائمها الداخلية.
وفي الوقت الذي رحّب فيه العالم والعرب بوقف الإبادة في غزة وبدء مرحلة جديدة من التفاوض، كانت أذرع إيران في المنطقة، وعلى رأسها الحوثي، تشن حملات إعلامية مناهضة لأي مبادرة عربية وتتهم الفلسطينيين بالتخاذل ونكران الجميل.
أما في الداخل اليمني، فقد قابلت المليشيا أجواء السلام في المنطقة بالتصعيد العسكري في بعض الجبهات الداخلية، محاولةً خلق حرب جديدة تعيد إليها مبرر الوجود، وتمنحها جرعة حياة في زمنٍ بدأ الناس فيه يتطلعون للهدوء والاستقرار.
انكشاف الغطاء الذي تذرّعت به المليشيا
يرى محللون أن مليشيا الحوثي كانت أكثر الأطراف الإقليمية تضررًا من اتفاق غزة، إذ فقدت الغطاء الدعائي الذي ظلت تتدثر به لتبرير بطشها. فبانتهاء الحرب هناك، لم يعد بإمكانها تسويق خطاب “نصرة فلسطين” أمام الداخل اليمني الذي أنهكته جبايةً وقمعًا.
وفي سياقٍ متصل، قال المحلل العسكري العميد محمد الكُميم، إن موقف مليشيا الحوثي من اتفاق وقف الحرب في غزة عكس حالة امتعاض وانزعاج واضحة، عبّر عنها زعيم الجماعة بتأكيده على استمرار المعركة، رغم الترحيب الدولي الواسع بالسلام.
وأكد الكُميم، في تصريحات خاصة لـ"الصحوة نت"، أن هذا الموقف ليس وليد الصدفة، فالجماعة اعتادت استثمار ملفات إقليمية، وفي مقدمتها قضية غزة، كغطاء لتبرير الحرب والتجنيد في الداخل، لافتًا إلى أن ظروفًا مشابهة في السابق شهدت حملات تعبئة واستقطابًا للمقاتلين والأطفال لتغذية الآلة العسكرية.
بالإضافة إلى ذلك، استثمرت مليشيا الحوثي الحرب كأداة لتكميم الأفواه وإسكات النقد، بحجة “الانشغال بالمعركة الكبرى”، بينما كانت في الواقع تُحكم قبضتها الأمنية على المجتمع وتُصادر كل أشكال الحياة المدنية والسياسية.
التحريض الإعلامي ضد الفلسطينيين
خلال أيام المفاوضات في شرم الشيخ، أجمعت الحكومات والشعوب العربية على دعم قرار الفصائل الفلسطينية بالتفاوض وإعلان وقف الحرب وإنهاء الإبادة وانسحاب الاحتلال، في موقف موحد عبّر عن رغبة عربية صادقة في إنهاء الكارثة الإنسانية في غزة.
في المقابل، أظهرت أذرع إيران في المنطقة، وعلى رأسها مليشيا الحوثي، مواقف معاكسة للموقف العربي، إذ شنّت حملات إعلامية منسقة ضد أي مبادرات تتصدرها الدول العربية، محاولةً تصويرها كخضوع للضغوط الدولية وتفريط في "قضية المقاومة".
ومع إعلان وقف الحرب في غزة، شنّ عشرات من ناشطي مليشيا الحوثي حملات تخوين وإساءة على مواقع التواصل ضد المقاومة الفلسطينية وأبناء غزة الذين احتفلوا وشكروا الدول العربية دون ذكر إيران، في مشهدٍ يفضح مأزق الجماعة الأخلاقي والسياسي بعد انكشاف شعاراتها الزائفة.
في المقابل، ردَّ ناشطون يمنيون بالتأكيد على أن الحوثي، الذي حاول لسنوات ترويج نفسه كـ“مدافع عن القدس”، وجد نفسه فجأة مكشوفًا أمام جمهوره، إذ لم تعد شعاراته قادرة على إخفاء حقيقة أنه مجرد ذراع في مشروع إيراني يستخدم فلسطين غطاءً لمآرب داخلية.
تصعيد داخلي لإحياء مبررات الحرب
في الأيام التي سبقت إعلان الاتفاق، كانت الجبهات في تعز تشهد تصعيدًا لافتًا. إذ شنّت مليشيا الحوثي هجومًا عنيفًا على مواقع الجيش الوطني في الجبهة الشرقية للمدينة، أعقبته اشتباكات عنيفة وقصف مدفعي مكثف، وتمكنت القوات الحكومية من صد الهجوم وإجبار المليشيا على التراجع.
بالتوازي، كشفت تقارير ملاحية أن المليشيا الحوثية نشرت صواريخ مضادة للسفن في منطقة مكيراس بمحافظة البيضاء، لتغطية كامل نطاق خليج عدن، في خطوة تهدد أمن الملاحة الدولية في واحد من أكثر الممرات البحرية حيوية في العالم.
كما دفعت المليشيا بتعزيزات عسكرية كبيرة نحو مناطق حدودية بين تعز ولحج، واستحدثت مواقع جديدة في جبل المصوام بمديرية الحشاء، ما أجبر عشرات الأسر على النزوح القسري، وسط صمت دولي مريب حيال هذه التحركات العدوانية.
وأوضح العميد الكُميم أن التحركات والتحشيدات وخرق الهدنات التي تنفذها المليشيا في عدد من الجبهات لا تعكس استعدادًا لخوض معركة وطنية، بقدر ما تمثل محاولة لتعويض فقدان ذريعة الإقناع الخارجية، وإبقاء الأوضاع في حالة توتر دائم تضمن لها البقاء.
وأضاف أن البعد الإقليمي حاضر بقوة في سلوك الجماعة، إذ مكّنها الدعم والخبرة الخارجية من القدرة على التصعيد والتحول إلى ورقة في حسابات النفوذ الإقليمي، وهو ما يفسّر توقيت تحركاتها بعد اتفاق وقف الحرب في غزة.
البحث عن حرب بديلة
وفقًا لتقارير إعلامية فإن تحركات الحوثي الأخيرة لا يمكن قراءتها بمعزل عن محاولة المليشيا البحث عن “حرب بديلة” تبقيها في الواجهة بعد فقدان مبرر غزة. إذ تسعى لربط جبهات تعز ولحج في شبكة عمليات واحدة تتيح لها الضغط على أكثر من محور إذا اشتعلت المواجهات.
ويذهب مراقبون إلى أن المليشيا تخشى أن يؤدي هدوء المنطقة إلى فتح ملفات الداخل اليمني، وفي مقدمتها الانتهاكات الإنسانية والاقتصادية التي ارتكبتها تحت لافتة “المعركة المقدسة”، لذا فهي تختار دائمًا أن تعيش على وقع القذائف لا الهدنة.
يرى المحلل العسكري محمد الكُميم، أن استمرار الحرب يمنح الحوثيين غطاءً للتهرب من استحقاقات المواطنين، كدفع الرواتب وتقديم الخدمات الأساسية، وصولًا إلى تعطيل عمل المنظمات الإنسانية واحتجاز موظفيها، ما يفاقم معاناة اليمنيين ويعمّق الأزمة الإنسانية.
واختتم الكُميم تصريحه بالقول إن الحوثي يعيش على حالة الحرب ويستفيد منها، فكلما انتهت ذريعة لجأ إلى أخرى، مؤكدًا أن المواجهة الحقيقية تبدأ بكسر دورة الأزمات عبر استعادة مؤسسات الدولة، ووضع حد لقدرة المليشيا على تحويل الصراع إلى وسيلة للبقاء والإثراء.