خطّة غزّة فرصة سلام أم وهم قابل للانفجار؟
Arab
1 hour ago
share
في ظلّ استمرار حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزّة، وبعد فشل مساعي وقف إطلاق النار، طُرحت على الطاولة مبادرة مثيرة للجدل حملت توقيع رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، توني بلير، بدعم أميركي مباشر، وبمشاركة لاحقة من عدة دول عربية. تسرّبت هذه المبادرة في وثيقة من 21 صفحة، ولم تكن مجرّد إطار عام، بل خطّة متكاملة لإدارة مرحلة ما بعد الحرب، أعادت إلى الواجهة النقاش الدائر منذ اندلاع الحرب الحالية على قطاع غزّة حول "اليوم التالي"، وتحديداً من سيحكمه؟ وكيف؟ طرحت خطّة بلير ما سُمّيت "سلطة غزّة الدولية الانتقالية" (GITA)، وهي كيان دولي يتمتّع بسلطة قانونية وإدارية على القطاع خلال مرحلة انتقالية. تتضمّن الخطّة هيئةً حاكمةً دوليةً تشرف على القطاع برئاسة شخصية دولية، وتضمّ ممثّلين أمميين وفلسطينيين مع تمثيل عربي وإسلامي لضمان "الشرعية الإقليمية"، وسلطةً تنفيذيةً فلسطينيةً تعمل بإشراف الهيئة، ويقودها تكنوقراط فلسطيني لإدارة القطاعات الخدمية، وقوةَ شرطة مدنية فلسطينية، مهنية وغير فصائلية، تعمل بالتوازي مع قوة استقرار دولية (ISF) متعدّدة الجنسيات لحماية الحدود وعمليات الإعمار، وإشرافاً أمنياً دولياً عبر مفوّض أمني ومركزَ تنسيق مشترك، وهيئةَ استثمار دولية لإعادة الإعمار وجذب رؤوس الأموال. تستثني الخطّة بهذا الشكل تماماً حركة حماس، وتضع قطاع غزّة تحت وصاية دولية شبه كاملة، وهو ما يُفسّر سبب رفضها المُبكّر فلسطينياً، حتى قبل عرضها رسمياً، كما يبدو أن غرض الخطّة الأساسي التخلّص من "حماس" فقط، ولا تقدّم أيّ سقف زمني مربوط بانتخابات عامّة في الضفة الغربية والقطاع، بالإضافة إلى عدم وضوح الآلية التشريعية، ولا أيّ نوع من القوانين سيسري خلال الفترة الانتقالية حسب الخطّة، كما أنه ليس هناك ذكر لمرجعية السلطة الانتقالية، هل الأمم المتحدة (مجلس الأمن مثلاً)؟ والأهم من هذا كلّه أن ما ورد في الخطّة هو الهيكل العام والمهام، من دون وضع أهداف واضحة لما ستنتجه، سوى التخلّص من "حماس"، وتغييب السلطة الفلسطينية في غزّة. وبالتالي، إعطاء نتنياهو الكلمة الفصل فيما يتعلّق بالأمن في القطاع، وتمكينه من البقاء في الحكم أطولَ فترةٍ ممكنة. وأخيراً ورد في الخطّة مصطلح "العدالة الانتقالية"، وهو مصطلح يستخدم في البلدان التي خاضت حروباً أهليةً وصراعاتٍ داخليةً مع ديكتاتوريات حكمتها. هل ترى الخطّة، والقائمون عليها، أن صراع الفلسطينيين مع إسرائيل اقتتال داخلي بحاجة إلى عدالة انتقالية؟ جاءت التعديلات العربية محاولةً لتقليل "السمّ السياسي" داخل الخطّة الأصلية أدركت الدول العربية المعنية (مصر وقطر والسعودية والأردن) أن الخطّة، بصيغتها الغربية، ستفشل حتماً في تحقيق أيّ قبول شعبي أو فصائلي فلسطيني. لذلك جاءت التعديلات العربية محاولةً لتقليل "السمّ السياسي" داخل الخطّة الأصلية. شملت هذه التعديلات الانسحاب الإسرائيلي الكامل والتدريجي من غزّة، وهو مطلبٌ فلسطيني ثابت وغير قابل للتفاوض، وتأكيد أن الإدارة ستكون تكنوقراطيةً فلسطينيةً مرتبطةً بالسلطة الفلسطينية، ما يعطيها شرعيةً محلّية ودوليةً، وحصر القوات الدولية في الحدود فقط، وتفضيل أن تكون ذات طابع عربي، لمنع تكرار تجربة الاحتلال باسم "السلام"، واستبدال مصطلح "نزع السلاح" بـ "وضع السلاح"، لتجنّب إذلال "حماس"، وترك نافذة لدورها السياسي مستقبلاً، وإضافة بند يمنع الضمّ الإسرائيلي لأجزاء من غزّة و الضفة، ما يشكّل ضمانةً ضروريةً للفلسطينيين، وتقديم التزامات اقتصادية حقيقية لإعادة إعمار غزّة من خلال آلية دولية شفافة. لم تغيّر هذه التعديلات، وإنْ تعكس تحسّساً عربياً لخطورة المشهد، جوهر الخطّة: إبعاد "حماس"، وتقويض المقاومة المسلّحة، وتدويل القطاع مؤقّتاً. يمكن تفسير محاولات إشراك الدول العربية في التعديلات بأنها لتحقيق الاستقرار الإقليمي، أو استجابة لضغوط دولية، أو لتعزيز نفوذها في تسوية الصراع، حتى لو لم تكن التعديلات جذريةً بما يكفي لتغيير الأهداف السياسية للمبادرة الأصلية. كي تنجح الخطّة، يُطلب من الطرفين، "حماس" وإسرائيل، تقديم تنازلاتٍ ضخمة. فمن ناحية "حماس"، عليها التخلّي عن حكم غزّة، وتسليم أسلحتها الثقيلة، والقبول بإشراف دولي، والتراجع عن العقيدة القتالية. أمّا إسرائيل، فعليها أن تنسحب من كامل القطاع، والقبول بإدارة فلسطينية، والتخلّي عن فكرة "نزع السلاح الكامل"، وقبول الوجود الأمني العربي - الدولي عند حدود غزّة. هذه ليست مجرّد تفاصيل، بل هي تغيّرات جذرية في معادلات الحكم والسيطرة والهُويَّة السياسية. تتضمّن الخطة الأميركية عناصر جيّدة مثل وقف الحرب والتخلّي عن مشروع التهجير تالياً، صدر بيان رسمي عن البيت الأبيض يكشف خطّة أميركية لمستقبل غزّة، وتتقاطع بشكل كبير مع المبادرات السابقة، لكنّها تأتي هذه المرّة بصيغة رسمية، وتلقى ترحيباً عربياً وإسلامياً واسعاً. أبرز ما تضمّنته: أولاً، إخراج "حماس" من المشهدين، العسكري والسياسي. ثانياً، إنشاء إدارة تكنوقراطية فلسطينية انتقالية. ثالثاً، إرسال قوة دولية عربية - أميركية لتأمين الحدود وإعادة تدريب الشرطة. ثالثاً، رؤية اقتصادية لإعادة إعمار غزّة لجعل القطاع "قابلاً للحياة". رابعاً، عدم التهجير القسري للفلسطينيين، وإعادة الاعتبار لحقوق الملكية، وهو بند محوري. لقي هذا البيان ترحيباً واسعاً من عدة دول عربية وإسلامية، رأت فيه فرصةً لإنهاء الصراع وفتح مسار سياسي نحو حلّ الدولتَين. ويعكس هذا الترحيب رغبة هذه الدول في دعم أيّ مبادرة تحمل في طيّاتها إمكانية تحقيق الاستقرار، حتى إن كانت لا تلبّي المطالب الفلسطينية بشكل كامل. ورغم أن الخطّة ما زالت تُصرّ على "نزع السلاح"، ما يعيد المفاوضات إلى مربّعها الأول، إلا أن الترحيب العربي والإسلامي يمنحها دفعةً سياسيةً قد تفتقر إليها المبادرات السابقة. رغم التنازلات التي على "حماس" دفعها بموجب هذه الخطّة، ثمّة ما قد يدفع الحركة إلى قبول المبادرة، أوله وأهمه تجنّب الإبادة الكاملة في ظلّ آلة الحرب الإسرائيلية الساحقة. ثانياً، ضمان بقاء سياسي ولو بشكل مخفف، مع احتفاظ رمزي بالسلاح. ثالثاً، رفع الحصار عن غزّة وبدء إعادة الإعمار. رابعاً، الحصول على ضمانات عربية، على الأقلّ بعدم تحويل غزّة سجناً جديداً دولياً. خامساً، استغلال المبادرة مناورةً سياسية لكسب الوقت وإعادة التموضع. في الطرف الآخر، هناك ما يدفع إسرائيل إلى الموافقة على مثل هذه الخطّة، إذ تبدو بعض مكاسبها مغريةً جدّاً، منها تحقيق الهدف المركزي بإنهاء حكم "حماس"، وتسليم قطاع غزّة لطرف ثالث من دون حاجة لإعادة احتلالها، وقوة دولية تضمن الهدوء الأمني من دون تدخّل إسرائيلي مباشر، بالإضافة الى رفع الحرج الدولي عن استمرار الحرب عبر "خطّة سلام" بديلة. أيُّ خطة لا تنبع من إرادة فلسطينية داخلية جامعة محكوم عليها بالفشل تدرك إسرائيل أن إدارة غزّة مجدّداً ستكون مستنقعاً سياسياً وأمنياً، لذلك لا مانع لديها (على الأرجح) من تسليمها لإدارة تكنوقراطية تلتزم بـ"أمن إسرائيل"، حتى إن كانت فلسطينية. ورغم أن الخطّة تُسوّق "حلّاً دولياً"، إلا أنها تقوم فعلياً على فرض رؤية إسرائيلية - أميركية للمنطقة، وتُعيد رسم دور الفصائل الفلسطينية وفق حساباتٍ لا تنطلق من مصالحها، بل من مصالح القوى الكبرى، فالخطّة تحتوي فخاخاً سياسيةً وعسكريةً قد تؤدّي الى تفجّر الوضع أكثر ممّا هو عليه، فإن إبعاد "حماس" عن الحكم بالقوة أو الضغط، قد لا يؤدّي إلى استقرار، بل إلى انفجار داخلي. وفيما يتعلّق بغياب الإجماع الفلسطيني على خطّة بهذا الحجم، سيُحوّل أيَّ إدارة جديدة خصماً شعبياً أو سياسياً للفصائل الأخرى. أيّ خطة لا تنبع من إرادة فلسطينية داخلية جامعة، أو لا تحظى بقبول الفصائل الرئيسة والمجتمع الفلسطيني، محكومٌ عليها بالفشل، بغضّ النظر عن الدعم الدولي والعربي. فيما يتعلّق بالقوة الدولية، مهما كان طابعها، ستُعتبر من أشكال الاحتلال، إن لم يكن هناك توافق شعبي وسياسي عليها. وأخيراً، أيّ مبادرة لا تضمن حلّاً نهائياً وشاملاً للقضية الفلسطينية ستبقى مؤقّتةً وقابلة للانفجار في أيّ لحظة. في ظلّ هذه التعقيدات، قد يكون من الضروري استكشاف مساراتٍ بديلة لا تعتمد على المبادرات الخارجية، بل تنبع من إرادة فلسطينية داخلية جامعة أو ضغط دولي حقيقي يفرض حلولاً عادلة، أو من رؤية عربية موحّدة أكثر قوة وفعالية. ولكن يبرز السؤال الأهم في ظلّ الإبادة التي يعيشها أهل قطاع غزّة، هل نحن أمام فرصة حقيقية لإنهاء الحرب؟ أم مجرّد وهم قابل للانفجار؟ تحمل المبادرة بعض ملامح الواقعية، لكن نجاحها يتوقّف، بشكل أساس، على عدة عوامل محورية، فمن دون قبول "حماس" التخلي عن الحكم في مقابل البقاء السياسي، وتهيئة الأجواء لانتخابات فلسطينية شاملة، ومن دون استعداد إسرائيل لتقديم انسحاب فعلي وضمانات بعدم ضمّ أراضٍ في قطاع غزّة والضفة الغربية، والأهم من دون وجود إرادة دولية حقيقية تتجاوز التواطؤ التكتيكي، ودور عربي فاعل يرتقي إلى مستوى الإبادة التي يعيشها قطاع غزّة، يتعدّى مجرّد الغطاء السياسي، ستظلّ هذه المبادرة أقرب إلى أن تكون "وهماً قابلاً للانفجار"، ولن تحقّق السلام المستدام الذي يتطلّع له سكّان قطاع غزّة، في ظلّ ما يعانوه تحت الإبادة.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows