
Arab
يوم الأربعاء الماضي، وبعد يومين على نشر الخطّة الأميركية بشأن غزّة، أعلنت المتحدّثة باسم البيت الأبيض كارولاين ليفت أن "مفاوضاتٍ بالغة الحساسية" تجرى في واشنطن لإنهاء الحرب. كانت هذه المفاوضات متوقّعةً، نظراً إلى انكشاف تعديلات أدخلها رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو على خطّة البيت الأبيض، وكشفها الرئيس دونالد ترامب لقادة ومسؤولين في دول عربية وإسلامية التقى بهم، ونال موافقتهم عليها، ما استدعى إجراء مفاوضات إضافية. علاوة على أن الخطّة "مبادئ تحتاج مناقشة تفاصيلها وكيفية العمل من خلالها"، كما أوضح رئيس الوزراء، وزير الخارجية القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، قائلاً: "الخطّة في مراحلها الأولى، وتحتاج إلى تطوير وتوضيح، خاصّة بما يتعلّق بآليات الانسحاب الإسرائيلي من القطاع". ومن المنتظر (وفق ذلك) أن تتواصل المفاوضات وتبلغ مرحلةً شبه ختامية لدى وصول ردّ حركة حماس والفصائل الوطنية (المنتظَر) على الخطّة، لأن الوضع لا يحتمل ترف البطء، ومن أجل تفادي صدام غير مبرّر مع الإدارة الأميركية التي منحت مهلة ثلاثة أو أربعة أيام للردّ عليها.
لم تكشف المتحدثة باسم البيت الأبيض الأطراف التي تشارك في المفاوضات بالغة الحساسية، غير أن من المفهوم أن الضامنين، ممثّلين بمصر وقطر وتركيا، هم من يخوضون هذه المفاوضات، مع ممثّلين للبيت الأبيض ولحكومة نتنياهو. ومغزى ذلك أنّ دور الضامنين مباشر وحاسم في مجرى المفاوضات ووجهتها، وهو دور سوف يتواصل لدى سريان تطبيق الاتفاقية. ويستحقّ هذا الدور التعويل عليه بدرجة كبيرة، ففي حين تدعو الخطّة إلى "قوة استقرار دولية" ذات وجود طويل الأمد بإشراف "مجلس سلام" برئاسة ترامب، وعضوية توني بلير وشخصياتٍ أخرى، فإن هذا الترسيم يغفل دور الضامنين الثلاثة المؤهّل لتشكيل هذه الهيئة مع إضافة بُعد دولي لها، يتمثّل في الرئيس ترامب، وبشخصيات دولية نزيهة وكفؤة وذات اطلاع وافر على قطاع غزّة، ونعني بها شخصياتٍ تنتسب إلى الأمم المتحدة، بدلاً من وجود سياسيٍّ مثيرٍ للجدل مثل بلير.
اعتاد الجيش الإسرائيلي أن يقوم بعمليات تدمير واسعة النطاق، ثمّ تطلب الولايات المتحدة من دول خليجية الإسهام في تمويل إعادة الإعمار
يثق المرء بالضامنين، مصر وقطر وتركيا، لخبرتهم الغنية بالوضع في غزّة سابقاً وراهناً، ولانخراطهم المثابر في المفاوضات عامَين، فيما سبق لمصر أن قادت مفاوضات عديدة بشأن الحروب على القطاع، ولأن أهل غزّة يثقون بهم ويعتزّون بالروابط القومية والدينية معهم، وقد سعت الخطّة (وبالذات في النسخة التي أدخل نتنياهو عليها تعديلاته) إلى تقليص دور الضامنين، بعيداً من المواقع القيادية للمرحلة الانتقالية، ففي الفقرة المتعلّقة بالانسحاب العسكري الإسرائيلي يرد: "ستنسحب قوات الدفاع الإسرائيلية تدريجياً وفق معايير وجداول زمنية مرتبطة بنزع السلاح، يُتّفق عليها بين الجيش الإسرائيلي وقوة الاستقرار الدولية والضامنين والولايات المتحدة. وسيتدرّج تسليم مناطق غزّة المحتلّة إلى القوة الدولية بالتنسيق مع السلطة الانتقالية، حتى الانسحاب الكامل". وبهذا، تصبح الدول الضامنة مجرّد طرف في مقابل ثلاثة أطراف: جيش الاحتلال والولايات المتحدة وقوة الاستقرار الدولية، وهو ما يحتاج إلى "تطوير وتوضيح"، كما ذكر رئيس الوزراء القطري في تعليقه على النسخة المعلنة من الخطّة.
تتضمّن الخطّة عناصر جيدة، مثل وقف الحرب والتخلّي عن مشروع التهجير، ومنح الأمم المتحدة والهلال الأحمر دوراً رئيساً في تنظيم المساعدات وتوزيعها، غير أن الخطّة تنتقص بصورة حادّة من دور الأطراف العربية والإسلامية، ابتداءً من تشكيل قوة الاستقرار الدولية، وهي قوة عسكرية رئيسة منوط بها بسط الأمن ووجودُها طويل الأمد، مروراً بعملية نزع السلاح أو وضعه، وليس انتهاءً بتشكيل "مجلس السلام"، إذ إن ثقة أبناء غزّة بالأشقاء، ومن هم في حُكمهم، أكبر بكثير من ثقتهم بأطراف دولية أخرى. وبعبارة أوضح، فإن سكّان غزّة، وبعد أن كابدوا ما كابدوه من حرب نتنياهو الوحشية ضدّهم، فإنهم لن يكونوا سعداء بانتشار قوة دولية تحمل سمات احتلالٍ أجنبي، وبقيادة دولة دعمت حرب الإبادة ضدّهم، فيما يتطلّعون إلى قوات عربية يجرى تطعيمها بقوات دولية وبقيادة دولة محايدة، مثل فنلندا أو مالطا.
التحدّي الأول في مواجهة خطّة ترامب منح دور أكبر للضامنين ولدول عربية في تنفيذها وقيادة المرحلة الانتقالية
وثمّة أمل ممزوج بالثقة والقناعة بأن المفاوضات بالغة الحساسية قد تناولت هذا الأمر في جوانبه المتعدّدة، فلا يعقل أن يُكافأ الوسطاء والضامنون على الجهد الشاقّ الذي بذلوه في مدار عامَين في إدارة المفاوضات، وعلى الروابط الوثيقة التي تجمعهم بالولايات المتحدة، بتنحيتهم مع دول مهمّة (السعودية والأردن وغيرهما) من قوة الاستقرار العسكرية و"مجلس السلام"، ومن قيادة المرحلة الانتقالية بالمُجمل، وتمكين السلطة الفلسطينية من حكم القطاع بأفضل صورة عصرية وديمقراطية ممكنة. وهناك نقاطٌ عديدة في الخطّة تستوجب المناقشة، من أهمها إعفاء مَن شنّ الحرب الوحشية من أيّ مسؤولية، بما في ذلك غياب التعهّدات من جيش الاحتلال بوقف تعدّياته الجسيمة على السكّان بأيّ صورة، وإلزام الطرف الإسرائيلي بأن يتحمّل القدر الأكبر من تمويل إعادة بناء ما دمّره من جامعات ومدارس ومستشفيات ودور عبادة وأبراج سكنية وأسواق ومركبات، فضلاً عن إزهاق عشرات آلاف من أرواح المدنيين الأبرياء. وقد اعتاد هذا الجيش أن يقوم بعمليات تدمير واسعة النطاق، ثمّ تطلب الولايات المتحدة من دول خليجية الإسهام في تمويل إعادة الإعمار. وهو ما يُراد له أن يتكرّر هذه المرّة، بما يتحدّى كل منطق وحِسٍّ سليم. علماً أن حكومة نتنياهو دمّرت (إضافة إلى قطاع غزّة) بشكل واسع مناطق ومواضع عسكرية ومدنية في كل من سورية ولبنان، وقد آن أوان تحميلها مسؤولية التعويض العادل عمّا اقترفته بدم بارد ونياتٍ مبيّتة.
ويبقى التحدّي ماثلاً في عدة أمور. الأول التدقيق في الصيغة المنتظرة للخطّة بمنح دور مُستحَق أكبر للضامنين ولدول عربية في تنفيذ الخطّة، وفي قيادة المرحلة الانتقالية. والثاني أن الطرف الإسرائيلي، كعادته في مثل هذه الظروف، سوف يحاول عرقلة تنفيذ الخطّة ما وسعه ذلك، وانتزاع مكاسب لا يستحقّها ولا تشملها الخطّة، وهو ما يتطلّب مراقبةً عربيةً وإسلاميةً ودوليةً حثيثةً لمتابعة التنفيذ وضمان الانسحاب الإسرائيلي الكامل في أقصر أمد ممكن. والثالث ضمان السيطرة الفلسطينية المصرية على معبر رفح، وخروج قوات الاحتلال منه، وتسهيل دخول المساعدات بواقع 600 شاحنة يومياً، منها 60 شاحنة وقود. أمّا رابعاً، فينبغي ضمان ألا تتحوّل قوة الاستقرار قوةَ بطش، وأن تُمنع من إطلاق النار، ومن عمليات الاعتقال، وألا تكون في مطلق الأحوال نسخة احتلال جديدة.
