
Arab
يرى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أن إسرائيل لم تحقّق النصر على حركة حماس فحسب، بل حقّقت الهدف المستحيل بإخفاء الشعب الفلسطيني من جديد، وإلغاء مطالبه المشروعة في تقرير المصير بإقامة دولته، وإخراج الفلسطينيين من الساحة السياسية، الذين دفعوا ثمناً باهظاً لتعزيز وجودهم فيها، بعد إخفاء قسري زمناً طويلاً. وجاءت خطّة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن قطاع غزّة، التي ناقشها مع عديد من الأطراف العربية والدولية، عنواناً لتغييب الفلسطينيين الذين كانوا خارج الاتصالات التي أدّت إلى صياغة هذه الخطّة. والصلة الوحيدة هي مطلب الوسطاء من حركة حماس بأن عليها الموافقة على الخطّة، وإطلاق الرهائن دفعةً واحدةً خلال 72 ساعة، والاختفاء من الساحة السياسية بعد ذلك. أمّا السلطة ومنظّمة التحرير الفلسطينيتان فكانتا الغائبتين الكبريين من اتصالات تقرّر مصير قطاع غزّة، الذي سيديره مجلس حكم من الغرباء، والسلطة الفلسطينية في حالة ترهّل وانهيار وشلل فاعلية.
بصرف النظر عن مصير خطّة ترامب، أصيبت الحركة الوطنية الفلسطينية بهزيمة كبرى، وهذه الهزيمة لا تصيب حركة حماس وحدها، بوصفها الطرف الذي نفّذ هجوم "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر (2023) الذي اعقبته الحرب الإسرائيلية الوحشية على قطاع غزّة، بل هي هزيمة لمجمل الحركة الوطنية الفلسطينية ومشروعها الوطني. وهذه الهزيمة لا تشبه الهزيمة الفلسطينية عند الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 1982 والخروج الفلسطيني بعد حصار مدينة بيروت، إنها هزيمة ذات طابع تحويلي، تخلق واقعاً جديداً، ليس في الجغرافيا الفلسطينية - الإسرائيلية فحسب، بل أيضاً تعيد ترتيب أوضاع المنطقة كلّها، والإقليم أيضاً. ويمكن مقاربتها مع حرب 1967 أو نكبة 1948.
الأكثر أهمية اليوم وقف المذبحة التي يتعرّض لها الغزّيون بأيّ ثمن
ليست هذه الهزيمة إطاراً نظرياً، إنما هي كلفة بشرية وتاريخية، والكلفة البشرية ليست أرقام ضحايا، بقدر ما هي حكايات مآسٍ لبشر من لحم ودم، وحكايات لمليونين ونصف المليون من البشر، الذين عانوا رعب الحرب وخسائرها في أملاكهم ومنازلهم وأحبّتهم، صغاراً وكباراً، نساءً ورجالاً وأطفالاً. الملايين الذين عانوا عامَين من الوحشية الإسرائيلية المنفلتة من عقالها. تضاف إلى ملايين الضحايا الذين دفعوا ثمناً باهظاً في مدى قرن من تاريخ الصراع. ولا مبالغة في القول إن اليمين الإسرائيلي بزعامة نتنياهو استطاع أن يعمّم الهزيمة على المنطقة كلّها، ليمكن القول إن الهزيمة لم تقتصر على الفلسطينيين، بل أصابت العرب بقدر ما أصابتهم، والجميع سيدفع ثمن هذه الهزيمة، ولن ينجو العرب منها على أساس أنها تخصّ الطرف الفلسطيني وحده.
لطالما اعتبر العرب القضية الفلسطينية قضيتهم المركزية في العالم العربي، ولم تكسب هذا الموقع بسبب الارتباط العاطفي للعرب بالقضية، بل بفعل التأثير السلبي لإسرائيل في أوضاع المنطقة بالمجمل، وفي الأقطار العربية منفردةً. ارتبطت القضايا المصيرية في المنطقة بتحقيق حلم استعادة فلسطين. كانت فلسطين على الدوام أكبر من جغرافيتها وأكبر من شعبها، مكان تحوّل قضيةً، واستحال رمزاً، ورُفع إلى مراتب التقديس. فهذه القضية التي شغلت العالم العربي، على المستويين الرسمي والشعبي، وصل التعاطف والبذل الشعبي معها (في حالاتٍ كثيرة) إلى مستوياتٍ لا تصدّق. في المقابل، وصل التوظيف الرسمي السلطوي في العالم العربي أيضاً إلى درجاتٍ لا تصدّق، ولو من موقع النقيض، موقع استخدام القضية الفلسطينية ورمزيتها من أجل تعزيز السلطات وتبرير القمع الشامل.
كانت النكبة في 1948 انكساراً للمستقبل العربي، وشكّلت على المستوى الفلسطيني تدميراً للوطن والمجتمع الفلسطينيين. وبات التاريخ الوطني الفلسطيني والتاريخ القومي العربي بعدها مختلفاً عمّا سبقها، فشكّلت النكبة حدثاً تأسيسياً في الواقعين الفلسطيني والعربي، وانقطاعاً تاريخياً ذا بُعد تحويلي، ليس لأنه رسم فقط خريطة جديدة للمنطقة وأوجد واقعاً سياسياً ضاغطاً على الجميع فيها، بل لأنه شكّل انقطاعاً ثقافياً وتحديًّا سياسياً. وجاءت هزيمة 1967 لتعمّق الجراح العربية، ولتضيف إسرائيل احتلالات جديدة لأراضي عربية إلى احتلالها ما تبقّى من الوطن الفلسطيني. ولم تعد المشكلة بالنسبة إلى الدول التي احتلّت إسرائيل أراضيها قضيةً قوميةً، بل غدت مسألة احتلال أراضٍ وطنية.
السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينيتان هما الغائبتان الكبريان من اتصالات تقرّر مصير قطاع غزّة
في تاريخها الوطني والقومي، كان مسار فلسطين محزناً، من المشروع القومي إلى المشروع الوطني إلى المشروع الإسلامي، أخذت فلسطين القضية والرمز تتآكل، وتفقد بريقها، وتتحوّل قطعةَ سلطة غير مكتملة يتناهشها أبناؤها، واضعين فلسطين/ الحلم في مسار انكساري، بوصفها حلماً يصنع مستقبلاً مستحقّاً للمنطقة. ومع الوقت، تحوّلت القضية الفلسطينية عبئاً على الدول العربية، وبات التخلّي عن القضية القومية ضرورةً وطنية، افتتحه الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، الذي اعتبر الحصول على الأراضي المصرية كافياً للخروج من الصراع، وترك الآخرين يعالجون مشكلاتهم مع إسرائيل وحدهم. وهو ما فتح الباب على حلول أحادية، مترافقةً مع التخلّي عن الفلسطينيين وقضيتهم، تحت شعار "نقبل ما يقبل به الفلسطينيون"، في الوقت الذي لم يعد يملك فيه الفلسطينيون القوة أو الدعم، ليقولوا ما يريدونه. تُرك الفلسطينيون وحدهم، واعتبرت القيادة الفلسطينية أن هذا الوضع يخوّلها الدخول في متاهة عملية سلام لم تؤدِّ إلى شيء. تحقّق اتفاق غامض في أوسلو (1993)، وامتلك الإسرائيليون وحدهم الحقّ في تفسيره، وقضموه، حتى حولوه سلطةً مهمّتها التنسيق الأمني مع إسرائيل، واليوم يسعون إلى تدمير تلك السلطة.
الأكثر أهمية اليوم وقف المذبحة التي يتعرّض لها الغزّيون بأيّ ثمن، ورغم الخسائر الكبرى، من المهم خفض كلفة الحرب، وتجنيب الأهالي مزيداً من نزيف الدم. نعم، هي هزيمة أخرى يجب الإقرار بها ومراجعتها، هي جولة أخرى من الصراع يخسرها الفلسطينيون. والمطلوب إعادة النظر في التجربة كلّها، في مقدّمتها الكارثة التي حلّت بالفلسطينيين أخيراً، ومكانتهم شعباً، ومكانة الفلسطيني ذاته في المشروع الوطني، والنظر بأدواتهم وأيّ مصادر قوة يملكون. إنّها الحاجة لقوى سياسية جديدة، تدرك الواقع المرّ الذي يعبره الفلسطينيون ويدركون الخسائر التي مُنوا بها، ويدركون، أن الهزيمة القاسية لا تعني نهاية الصراع، الذي تصرّ إسرائيل على إبقائه مشتعلاً ومن دون حلّ.
