الاستراتيجية الدفاعية اللبنانية قبل 50 عاماً
Arab
1 hour ago
share
تأخذ أطراف سياسية لبنانية على أخرى أنها تدفع إلى الواقع المحلّي بمفرداتٍ ومفاهيمَ، وبصيغ ناتجة من خلفيات مرذولة، ابتغاء أهداف ملعونة. ومن تلك الصيغ المنبوذة من قوى لبنانية محدّدة ما يُعرف بـ"الاستراتيجية الدفاعية" أو "استراتيجية الأمن الوطني"، التي وردت في خطاب القسم الرئاسي الذي ألقاه العماد جوزاف عون بعد انتخابه رئيساً للجمهورية اللبنانية في يناير/ كانون الثاني الحالي. وإذ تأخذ هذه القوى على دعاة الاستراتيجية الدفاعية أنهم يختلقون ويبتدعون مفاهيم لم يألفها لبنان، ويدرجونها في دائرة المنتوج السياسي والأمني المتطفّل، وإقحام اللامعقول في المعقول اللبناني، فوقائع الماضي القريب تنبئ بنقاشات محلّية عالية المنسوب حول كيفية حماية لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، وهذا ما يستدعي إنعاش الذاكرة الوطنية اللبنانية بالجدالات والنظريات الدفاعية التي سبقت الحرب الأهلية في ربيع عام 1975. في عدد مجلة الحوادث البيروتية، المؤرّخ في 20/4/1973، خمسة أركانٍ تصوغ الاستراتيجية الدفاعية اللبنانية، طرحها الزعيم الوطني كمال جنبلاط في مؤتمر صحافي، وهي كما وردت حرفياً: أولاً تأمين الدفاع الجوي بواسطة بطاريات صواريخ أرض ـ جو، خصوصاً حول العاصمة والمدن الرئيسة والنقاط الاستراتيجية، ولحماية الجنوب من تحليق الطيران الإسرائيلي في أجوائه. ثانياً الدفاع عن الشواطئ اللبنانية باقتناء الزوارق السريعة والمسلّحة بالطوربيد وبالقذائف الصاروخية الموجّهة على شاكلة الزوارق السوفييتية وغيرها. وثالثاً توفير أوفر كمية من الأدوات والقذائف المضادّة للدروع، وإقامة سلسلة من الشبكات الإلكترونية الكاشفة. ورابعاً، إنشاء حرس وطني يستنفر تلقائياً في كل بلدة أو منطقة تتعرّض للغزو الإسرائيلي أو لتسلل الكوماندوس. وأخيراً (خامساً) تنفيذ مشروع الخدمة الإلزامية العسكرية والخدمة الإلزامية الشعبية الاجتماعية والعمرانية. وبالعودة إلى المؤتمر الصحافي لجنبلاط، يتبيّن أنه في 13/4/1973، ونشرت وقائعه صحيفتا الأنوار والنهار اللبنانيتان في اليوم التالي. واستخدم جنبلاط فيه مصطلح "السياسة الدفاعية للبنان"، وكشف أن مشروع الحرس الوطني الوارد في الأركان الخمسة يعود إلى عام 1959، وقُدّم إلى رئيس الجمهورية آنذاك، اللواء فؤاد شهاب، وغاية ذلك بحسب جنبلاط "تهيئة الشعب للدفاع عن أرضه، لا سيّما أن هناك مجالاً واسعاً للتسلّلات الإسرائيلية (من الجو ومن غيره) إلى الأراضي اللبنانية، ودائما كان اليسار اللبناني يطالب بإنشاء حرس وطني فعلي من المواطنين". قابل هذا الطرح بعض اللبنانيين بخفّة وسخرية، ومنهم صحافيون ومحللون سياسيون، مثل مارك رياشي، الذي كتب في صحيفة النهار (15/4/1973)، فخلع على جنبلاط صفة "الجنرال"، واصفاً إياه بأنه يعمل السبعة أعمال، فمرّة طبيباً، وحيناً عرّافاً، وساعةً رئيسا لحزب اشتراكي، وأخيراً خبيراً في الشؤون العسكرية. بهذا التهكم والاستهزاء قوبل مشروع كمال جنبلاط الدفاعي، ولكن قبل ذلك، كان ثمّة مشروع يماثل "الحرس الوطني"، واسمُه "أنصار الجيش"، وسطعت فكرته بعد الاعتداء الإسرائيلي على مطار بيروت الدولي (28/12/1968) وتدمير 13 طائرة مدنية تابعة للأسطول الجوي اللبناني. وفي إثر ذلك، راح مجلس النواب والحكومة اللبنانيان يعقدان اجتماعات مفتوحة نوقشت فيها السياسة الدفاعية، بحسب "الأنوار"، في أعدادها بين الأول والثامن من يناير/ كانون الثاني 1969، وفي صُلب تلك السياسة تسليح الجيش اللبناني وإقرار مشروع الخدمة العسكرية الإلزامية وإنشاء حرس وطني، عُرف في وقت لاحق بـ"أنصار الجيش". جرى نقاش السياسة الدفاعية اللبنانية منذ أكثر من نصف قرن، ولو أُجيب عنه لكان الواقع مختلفاً اليوم وفي جلسة مجلس النواب السرّية، كما جاء في "الأنوار" (1/1/1969)، قال رئيس الحكومة الأسبق، رشيد كرامي، إن على لبنان أن يقرّر وسائل الدفاع، ويشتري الطائرات الحربية والرادارات. واستعرض النائب رينيه معوض (رئيس الجمهورية لاحقاً) الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان منذ 1948، متسائلاً عمّا فعله هذا البلد لرسم سياسته الدفاعية، ودعا الرئيس كميل شمعون إلى الردّ على الإعتداءات الإسرائيلية إذا هوجم لبنان مرّة أخرى، "والمهم أن نهيئ أنفسنا للدفاع عن الوطن صفّاً واحداً وقلباً واحداً". حينذاك، كتب سعيد فريحة افتتاحيته الشهيرة في "الأنوار"، وعنوانها "نريد وزارة حرب"، وقال فيها "منذ الخامس من يونيو/ حزيران 1967، ونحن في حالة حرب، وليس عندنا وزارة حرب"، ثمّ سأل: "متى كان يُشترط في الدفاع عن الوطن والمصير والكرامة وجود التفوق أو التكافؤ؟ وهل تسلّم بيروت والجنوب ولبنان كلّه إذا كان السكوت شعارنا". وبعد يومين من التاريخ السالف الذكر، شرح رئيس الحكومة عبد الله اليافي تطلّعات لبنان الدفاعية، وتقوم على ثلاثة أسس: الاعتماد على النفس والذات، والتجنيد الإجباري، وعدم التعويل على المساعدات الأجنبية لأنها "عابرة ولا تجدي نفعاً"، ومؤكّدا في الوقت نفسه أنه "لم يرد أي عرض يمنح لبنان ضمانات دولية". فيما قال وزير الخارجية والدفاع حسين العويني: "سنقاتل على كل شبر من أرضنا وسنقاتل حتى النفس الأخير، ولو قاتلنا بمفردنا"، وفقا لما أوردته "الأنوار" في 4/1/1969. وفي 7 يناير/ كانون الثاني من السنة نفسها، جال المدير المسؤول لصحيفة الأنوار، عزّت صافي، في قرى الجنوب الأمامية المحاذية لفلسطين المحتلة، وكتب تحقيقاً مطوّلاً عن إشراف الجيش اللبناني على تدريب الشبّان الجنوبيين. وممّا قاله: "زرتُ أمس قرى الحدود، حيث بدأ تسجيل أسماء المتقدّمين للتدريب العسكري وحمل السلاح، يشمل التدريب التعليم على القتال واستعمال السلاح والأراضي وطرق الوقاية من خطر قصف الطيران والمدفعية، سيُسلّم كل متدرّب بندقية مع الذخيرة اللازمة، ورخصة لاقتنائها ونقلها، وعُقدت ثلاثة اجتماعات لهذه الغاية في مدن مرجعيون وبنت جبيل وصور، حضرها مسؤولون من الجيش وحوالي تسعين مختاراً". وبالرجوع إلى مجلة الحوادث، لوحظ أنها نشرت، إلى جانب مشروع كمال جنبلاط الدفاعي، آراء خبراء عسكريين، تضمّنت مقترحات لسياسة لبنان الدفاعية، تمحورت عناوينها حول ضرورة إنشاء أسراب من "الطوّافات الجريئة"، وكوماندوس بحري هجومي، واستغلال الجغرافيا الطوبوغرافية اللبنانية الملائمة لحرب العصابات، ووجوب الخدمة العسكرية الإجبارية على النموذج السويسري، وتنظيم قسم من الجيش اللبناني ليحارب وفق قواعد حرب العصابات إذا تعرّض لبنان للغزو، ويجب أن يتخفى هذا القسم من الجيش في أنحاء البلاد، من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، في المغاور والجبال، ويجب أن ينظّم الجيشُ مجموعاتٍ صغيرة يمكنها الوصول إلى الجبال فوراً، إذا حدث تراجع عسكري في الجبهة. ومن ضمن العناوين المقترحة تنظيم الدفاع عن المرافق الحيوية والاستراتيجية مثل المطار والمرافئ والسدود وغيرها، وتدريب شبّان مُنتخَبين على حرب العصابات في كل مدينة وقرية، وتخزين السلاح والذخيرة في مراكز الشرطة لاستخدامها وتوزيعها عند الضرورة. وإذا كانت الخدمة العسكرية الإجبارية محلّ اعتراض، فيمكن الاستعاضة عنها بقانون يحتم الخدمة في الجيش ثلاث سنوات لكل من يريد الدخول في وظائف الدولة، ما عدا الفئات الأولى والثانية والثالثة. تلك عناوين ناقشها اللبنانيون قبل أكثر من نصف قرن، ربما لو أجابوا عليها، وأجادوا ابتكار طوق حمايتهم، لما وجدوا أنفسهم في وطن متصدّع أو في دولة متشقّقة على ذاتها. وبالطبع، ما كان لطرف أو تنظيم أن يخرج ويقول إن النقاش حول السياسة الدفاعية للبنان نبتٌ غريب وزرعٌ مريب، حلّ في تربة لا تألف إلا زرعها وضرعها... وللحديث بقيّة.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows