
Arab
شكّل مجلس حقوق الإنسان (التابع للأمم المتحدة) في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بعد حوالي ستة أشهر من اندلاع حرب السودان، البعثةَ الدولية المستقلّة لتقصّي الحقائق في السودان، من أجل التحقيق في الانتهاكات والتجاوزات المزعومة. خلال عامين تتبّعت البعثة قدر الإمكان الجرائم في حقّ المدنيين. لم يتعاون النظام العسكري الحاكم في بورتسودان معها، وتجاهلها طول فترة عملها، ورفض الردّ على استفساراتها ورسائلها، رغم شكاوى مندوب السودان في الأمم المتحدة المتكرّرة من تقاعس المجتمع الدولي عن مساعدة السودانيين. راسلت البعثة عدة جهات حكومية، منها مكتب رئيس الوزراء المُعيّن كامل إدريس، ولم يردّ أحد عليها.
حتى أغسطس/ آب الماضي تجاهل النظام العسكري البعثة وطلباتها للعام الثاني، وهو ما يبدو أن قوات الدعم السريع قد تعلّمته بسرعة من خصمها، فبعد تعاون محدود في العام الماضي، اكتشفت المليشيا أن إبداء الترحيب، والتظاهر بالتعاون، لا يعنيان أن تتجاهل البعثة الجرائم المُرتكَبة، وهي الطريقة نفسها التي كان نظام الرئيس الأسبق عمر البشير يتعامل بها مع المجتمع الدولي: التظاهر بالتعاون، ثمّ الغضب من الإجراءات الدولية، وأخيراً اعتبارها عدواً. فعل ذلك مع المحكمة الجنائية الدولية، ومع المبعوثين الدوليين كافّة. لذلك تجاهلت "الدعم السريع" البعثة وطلباتها في العام الثاني.
خلص تقرير البعثة إلى أن قوات الدعم السريع ارتكبت خلال حصارها مدينة الفاشر (شمال دارفور) مجموعةً واسعةً من الجرائم ضدّ الإنسانية. رصد جرائم القتل والتعذيب والاسترقاق والاغتصاب والعنف الجنسي والتهجير القسري... في قائمة طويلة من الجرائم، لا تقف عند الاضطهاد على أساس عرقي واستخدام الجوع سلاحاً حربياً ضدّ المدنيين. حرمت قوات الدعم السريع (والقوات المتحالفة معها أخيراً بعد تكوين تحالف تأسيس وحكومته الموازية) سكّان المدينة والمناطق المحيطة بها من الغذاء والدواء والمساعدات الإغاثية. واعتبرت بعثة تقصّي الحقائق ما ترتكبه المليشيا في المدينة المحاصرة جريمةً ترقى إلى الإبادة الجماعية، وهي ليست تهمة جديدة في سياق الجرائم المُرتكَبة في إقليم دارفور. فمنذ تأسيسها، أجرمت "الدعم السريع" لحساب النظام السابق، ارتكبت جرائم حربٍ واضطهاد ضدّ المجموعات غير العربية في دارفور، قبل أن يدور الزمان دورته، وتصبح "الدعم السريع"، الذي اعتبر البشير تكوينها أهم قرارات حكمه، قوات متمرّدة، ويصفها من صنعوها ودرّبوها وارتكبوا بها (ومعها) الجرائم أنها مجموعات من المرتزقة غير السودانيين الباحثين عن وطن قومي لعرب أفريقيا في بلاد السودان. كان من الممكن قبول شهادة النظام السابق ضدّ قواته التي صنعها على عينه، ونفّذ بها جرائمه، حتى أصبح البشير مطلوباً للمحكمة الجنائية الدولية، فهو بها عليم. لكنّ المشكلة أن من يتحدّث عن مشروع "دولة عرب أفريقيا" هو نفسه من ظلّ يتحدّث عن مشروع "دولة الزغاوة الكبرى"، وكيف أن القبائل العربية الدارفورية تقف ضدّ مشروع صهيوني دولي يهدف إلى إقامة دولة لقبيلة الزغاوة في بلاد السودان، ثمّ تحوّلت الاتهامات ضدّ القبائل العربية، وأصبحت التنظيمات المسلّحة الدارفورية هي الحامي الجديد للدولة، والمتصدّية للمشروع الصهيوني الدولي الذي يهدف إلى دولة لعرب أفريقيا في بلاد السودان.
لم تتغير الاتهامات، إنما تغيّرت مواقع الفاعلين، فتحوّلت حركة العدل والمساواة من حركة يصفها النظام السابق بالتمرّد والإجرام والعمالة إلى حليف رئيس للجيش. أمّا "الدعم السريع" الذي كانت جرائمه مباركةً ويدافع عنها الجيش والأجهزة الأمنية وقادة الحركة الإسلامية، فأصبح هو العدو المُهدِّد للبلاد. يجعل هذا الانقلاب، والتهم المُكرَّرة المحفوظة، قبول شهادة النظام السابق ضدّ مليشياته الإجرامية (الجنجويد) أمراً فيه نظر، فقد ظلّ نزع الانتماء والجنسية السودانية ديدن النظم العسكرية الحاكمة في السودان. وكانت هذه هي التهم نفسها التي أُطلِقت بها يد المليشيات لارتكاب الجرائم ضدّ القبائل غير العربية.
يرصد تقرير البعثة المستقلّة كيف واصلت "الدعم السريع" ارتكاب الانتهاكات في إقليم دارفور، وكيف ارتكبت خلال الحرب الأهلية (مستمرّ منذ 2023) جرائم ضدّ الإنسانية. لكن يظلّ الأمر العجيب أن ردّ الفعل الرافض لتقرير البعثة الدولية كان من النظام العسكري، لا من مليشيا "الدعم السريع". وإن من طالب مرّة أخرى بإنهاء عمل البعثة هو الجيش وحكومته، بينما لزمت "الدعم السريع" الصمت، ربّما لأنها منشغلة بارتكاب مزيد من الجرائم في مدينة الفاشر المحاصرة.
