
يمن مونيتور/ وحدة التحليلات/ خاص:
رغم المكانة البارزة التي تحظى بها في التاريخ اليمني الحديث، تظل تعز في الغالب ضحية التفاصيل الصغيرة والمعزولة. حادثة واحدة، تُفهم بمعزل عن الصورة الكبرى، قد تُستغل لإدانتها، فالمدينة التي تبدو في تفاصيلها الصغيرة، تغيب في الصورة الكبيرة، بينما الواقع يقول إن صمودها وتضحياتها هو ما جعلها جائزة المتسابقين.
وعادة ما يتم تضخيم حادثة أمنية صغيرة في وسط المدينة (مثل خلاف بين أفراد مسلحين) أطلقوا الرصاص على بعضهم في وسائل الإعلام التابعة لأطراف معادية، ليتم تقديمها كدليل على “فشل” أو “فوضى” المدينة بأكملها. بينما يتجاهل هذا التضخيم دور تعز المحوري في المقاومة ضد الحوثيين وصمودها الطويل، وهو ما جعلها هدفاً لهذه القوى.
من أعلى، يمكن للمرء أن يرى مدى الحصار الذي يطوقها برًا وبحرًا وجوًا، ويستشف أن تحجيمها أصبح شرطًا لاستعادة النفوذ لقوى لا ترغب في إسقاطها مباشرة، بل تعمل على تكديس نقاط الإدانة وتوظيف التفاصيل الصغيرة ضدها. تساعدها في ذلك هذه التفاصيل التي لا تُفهم إلا في سياق تاريخ المدينة وموقعها الاستراتيجي، وغياب هذا الفهم يجعل مؤيديها أحيانًا يساهمون دون قصد في إضعاف المدينة، بينما كانت التفاصيل نفسها يمكن أن تعكس صمودها وتضحياتها.
شمالًا تدور المعركة الأطول مع الإمامة التي تريد احياء نفسها، فمنذ سبتمبر 1962 لعبت تعز دورًا مركزيًا في الثورة ضد الإمامة، حيث مدت ساحات المواجهة بالرجال والنساء والنخب والتجار. لم تقاتل جزءًا من الإمامة، بل كل الإمامة، وكأن المدينة وحدها مسؤولة عن الدفاع عن الجمهورية. هذا الدور ما زال مستمرًا حتى اليوم، حيث تواصل المدينة مقاومة الحوثية، التي تطبق عليها الحصار برًا وجوًا، بينما يبقى مطار تعز والطريق الرابط بينها وبين صنعاء وعدن تحت سيطرتها. هذا الصمود يثبت أن المدينة ما زالت تحتفظ بإرادتها، رغم كل محاولات الخصوم النيل منها.
وتحاول جماعة الحوثي مراراً اقتحام مدينة تعز، وتشن هجمات عنيفة تؤدي إلى مقتل وإصابة العشرات من أفراد الجيش، في محاولات تهدف إلى السيطرة على المدينة بالكامل، لكنها فشلت بسبب المقاومة الشرسة من قبل الجيش الوطني والمقاومة الشعبية. ورغم الحصار الخانق، استمرت تعز في توفير الدعم للمحافظات المجاورة والجمهورية بشكل عام، مما يؤكد استمرارية دورها كحامية للجمهورية.
جنوبًا، يقع الطريق البري الذي يصل تعز بلحج تحت سيطرة المجلس الانتقالي، الذي، وكما يبدو، ينظر إلى تعز بعين التيار الحنوبي صاحب الموقف التقليدي من الوحدة، والذي تعتبر تعز امتدادًا حيًا للعهد الجمهوري الوحدوي. هذا يفسر محاولاته المستمرة لتقييد المدينة والتحكم في مداخلها ومخارجها.
وعادة ما تقوم قوات المجلس الانتقالي الجنوبي بتوقيف قافلات المساعدات الإنسانية والسلع التجارية المتجهة إلى تعز على طريق لحج-تعز. تتكرر هذه الحوادث بانتظام، مما يعيق حركة التجارة ويعمق معاناة السكان. هذه الإجراءات، التي تُبرر أمنياً، تُعد في جوهرها انعكاساً لموقف المجلس من تعز كقوة “وحدوية” وجمهورية.
غربًا، أما في الغرب، حيث البحر، فقد استحوذت عليه القوى التي تعتبر تعز مسؤولة عن أحداث 2011، حين تحولت المدينة من قوة شعبية إلى قوة حاسمة في المشهد السياسي. تلك القوى تمنع المدينة من الوصول إلى البحر، وتسعى لإسقاطها لحسابها وبمعزل عن علاقتها السابقة مع الحوثي، فلديها ثأرها الخاص مع المدينة. ففي هذه المدينة حدث التلاحم الأكبر بين المجتمع والحالة الحزبية التي برزت خلال مواجهتها السلمية لنظام صالح، كما أنها الفرصة المتبقية لإحراز نصر خاص بعائلة صالح.
وسيطرت القوات الموالية لعلي عبد الله صالح وحزب المؤتمر الشعبي العام (جناح صنعاء سابقاً) على ميناء المخا على البحر الأحمر ومنع أي قوات أو أفراد من تعز من الوصول إليه أو استخدامه، وبناء مطارات خاصة بهم دون استخدامها من أبناء المحافظة. تلك القوى الغاضبة حاولت مراراً بناء قوتها في الأطراف الغربية للمدينة بما في ذلك الحجرية وجبل حبشي واشترت أراضي وولاءات عديدة في المديريات الغربية والجنوبية للوصول إلى المدينة وفرض نهجها داخلها واسقاطها لصالحها لتحسين وجودها في هيئة الحكم ومستقبل اليمن، لكنها دائماً ما اصطدمت بوعي الناس والمواطنين والسلطات المحلية والروح الحيّة للمجتمع.
إلى جانب ذلك، هناك التفكيكون، بقايا القوى السياسية والقومية التي تسعى لتأديب تعز لأنها لم تبق في صفهم وانحازت أيديولوجيًا مع خصمهم التقليدي. هؤلاء يقدمون خدمات جليلة للقوى الإحيائية، يغطون العدو الحقيقي، ويستدعون بدلا عنه أعداء وهميين مع كل حادثة. هذه المهمة التي تلزمهم اسقاط الدولة من الخطاب واخراجها عمليا من الاعتبار كشرط للنيل من خصم لطالما كان عصيا والتحريض عليه ولو على حساب المدينة باعتبارها جزءًا من الآخر، رغم ان هذا الانقسام الذي يتسببون به قد منح الحوثيين غطاء مناسبًا لتضليل الشعب اثناء لكنه لم يصبح درسا.
عندما يواجه الحوثيون هزيمة عسكرية أو أمنية في الجبهات المحيطة بتعز، تقوم بعض الأطراف السياسية المعادية للمدينة (مثل بعض القوميين أو بقايا المؤتمر الشعبي العام) بتوجيه اللوم إلى فصائل المقاومة في تعز، وتتهمها بـ”الفشل” أو “الفساد”، مما يصرف الانتباه عن العدو الحقيقي (الحوثي) ويقدم غطاءً إعلامياً له. هذا يُضعف الجبهة الداخلية لتعز ويزيد من الانقسامات ويخدم مصالح القوى الإحيائية دون قصد.
إضافة إلى ذلك، تعاني تعز من إهمال الدولة وخذلان السلطة، رغم أنها قدّمت التضحيات الأكبر. كل الجهات التي تسعى لإضعاف تعز تحاول استغلال ثغرات الدولة المركزية وتحويلها إلى سوط يُضرب به ظهر المدينة، المدينة المنحازة للعهد الجمهوري والرافضة الانخراط في الوضع اليمني المقسّم. وعادة ما يتم التأخر في دفع مرتبات الموظفين الحكوميين والقوات العسكرية في تعز من قبل الحكومة الشرعية، على عكس بعض المحافظات الأخرى. هذا الإهمال يثير سخطاً واسعاً في أوساط السكان ويزيد من معاناتهم، ويُعد ثغرة تستغلها الأطراف المعادية لتأكيد فشل السلطة المركزية.
The post الإحيائيون والتفكيكيون.. أوضاع مدينة تعز الأمنية والسياسية قراءة تحليلية appeared first on يمن مونيتور.