فتحي المسكيني: من الذات الكولونيالية إلى طوفان الأقصى
Arab
2 hours ago
share

لا يرى الباحث والأكاديمي التونسي فتحي المسكيني الذات مفهوماً محايداً، ولا كائناً يكتفي بمعرفة نفسه أو فهم العالم، بل هي بناء كولونيالي تبلور في الفكر الغربي الحديث، من إعلانات الحداثة الأولى لدى ديكارت وصولاً إلى هيغل، وعلى هذا الأساس، صاغ الغربيون نموذجاً جديداً للإنسان، منحوه اسم "الذات"، واختُزل الآخر، غير الأوروبي، إلى موقع "الموضوع"، موضوع للدراسة الأنثروبولوجية، والإثنولوجية، والفلسفية.

في كتابه "هذه الذات ليست لك: صدوع ديكولونيالية" (دار الأمينة للنشر والتوزيع، 2025، القيروان)، يشير المسكيني إلى أن المشروع الاستعماري الكولونيالي استند إلى فكرة أن للغرب عقلاً كونياً ورسالةً حضارية محايدة وغير متحيّزة، تمنحه شرعية "تمدين" الشعوب الأخرى وقيادتها نحو الحداثة، ويعلّق خلال الدورة السابقة من معرض تونس الدولي للكتاب، قائلاً "نحن صدّقنا هذه السردية، لكننا نسينا، أو تجاهلنا، أننا لم نكن يوماً ذواتاً فاعلة داخلها، بل كنا دوماً موضوعاتها".

من الأمثلة اللافتة التي يتعرض لها الكتاب، ذلك الخطاب الذي ساد في الغرب منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، وفُرض بنوع من مكر العقل الكولونيالي، اختزالاً بين مفهومي "التطرّف" و"الإرهاب"، بحيث صار الإرهاب يُفهم بوصفه تعريفاً ثقافياً عملياً ومقبولاً لظاهرة التطرف الديني، وبشكل خاص لـ"الإرهاب الإسلاموي"، رغم أن التطرّف أقدم من الإرهاب ومختلف عنه، لكن ما وقع، بحسب المسكيني، أنه بعد انهيار "المعسكر الشيوعي"، خسر الغرب عدوّه الأيديولوجي، فخرج يبحث عن عدوٍّ جديد، فتمّ تصنيف الإسلام بوصفه عدواً مناسباً ونموذجياً، وأُطلقت عليه صفة "العدوّ الحضاري"، منتجاً بذلك نمطاً من الدراسات التابعة، التي تُجبر الباحثين المسلمين على تبنّي دور "الذات المعتدلة" في مواجهة "الذات المتطرّفة".

ترييف أوروبا

يقصد المسكيني بـ "ترييف أوروبا" النظر إليها بوصفها واحدة من الثقافات البشرية المتعددة، لا بوصفها نقطة الأصل أو المعيار الأعلى للحضارة، ذلك أن أوروبا، منذ الحرب العالمية الأولى، كما يشير الفيلسوف الألماني هانز-جورج غادامير، بدأت تفقد مكانتها الرمزية بوصفها مركزاً ثقافياً للعالم، ولم تعد مؤهلة، كما تصوّر هيغل، لقيادة التاريخ الإنساني، بعدما تحوّلت تدريجياً إلى ما يشبه "الريف الروحي"، والأمر لا يتعلّق بتجاهلها أو إنكار إسهامها الفكري، بل بتفكيك الامتياز الكولونيالي الذي أتاح لها، في ذروة هيمنتها الاستعمارية، أن تحتكر حق الحديث باسم الكوني.

حقوق الإنسان أتت استجابة أخلاقية متأخرة لصدمة داخلية أوروبية

ويكشف المسكيني عن الطابع المحلي المموّه لما يسمى بـ"الكوني"، بوصفه "كونانية" فُرضت من موقع الهيمنة "الكلية"، ولا تُنتجه، ولا سيّما في الخطاب الحقوقي الحديث. ففي نظره، سردية حقوق الإنسان ليست "نظاماً للحقيقة" كما يُروّج لها، بل هي في جوهرها "سياسة خطاب" نشأت داخل حداثة أوروبية مخصوصة، لا استجابة لرؤية شاملة للإنسانية، إذ إن الإنسان الذي احتكم إليه إعلان 1789 عن "حقوق الإنسان والمواطن"، لم يكن سوى "الإنسان الأوروبي" (بحسب تعبير هوسرل)، في فهمه لنفسه وحاجاته الأخلاقية والسياسية في لحظة تاريخية محددة، بينما جرى تغييب "الآخر" خارج هذا الأفق، بدليل أن فلسفة التنوير قد صاغت ذلك الإعلان قبل أن تطوّر مقولة الآخر.

ولم يبدأ الكوني في التوسّع ليشمل الآخرين إلا بعد الحرب العالمية الثانية، وبشكل انتقائي، مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 والذي لم يكن طفرة إنسانية، بحسب المؤلف، بل استجابة أخلاقية متأخرة لصدمة داخلية أوروبية، هي صدمة "الهولوكوست"، ما أدى إلى إدراج "اليهودي" ضمن نطاق الكونية الأوروبية، فيما ظلّت شعوب المستعمرات خارج أفق الاعتراف. ويعثر المسكيني على الرابط البنيوي بين الإعلان الكوني لحقوق الإنسان، وهو "كوني" لا "عالمي"، وبين الاعتراف الأممي بشرعية قيام دولة "إسرائيل"، بصفتها وطناً قومياً لليهود الناجين من المحرقة، على نحو يفترض، بالضرورة السكوت الأممي، القانوني والكوني، عن عملية تهجير سكان فلسطين الأصليين.

حرب الإبادة على غزة

يختتم المسكيني كتابه بـ"حوار حول الطوفان"، أُجري مع عيسى جابلي، يناقش فيه تداعيات السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، فالراهن، ليس حدثاً عابراً، بل هو امتداد لمسار كارثي بدأ مع الحداثة الفلسفية الأوروبية، ثم تواصل عبر الاستعمار واتخذ صيغاً جديدة تحت مظلة العولمة، والمفارقة أن العنف الاستعماري هذه المرة لا يُمارس باسم "المتحضّر الأبيض"، بل باسم "الضحية التاريخية"، أي اليهودي الناجي من المحرقة، الذي أعيد توظيفه سياسياً وسردياً لتبرير تقنيات محو حديثة.

تأكيد عصيان معرفي حقيقي في وجه لاإنسانية المشروع الغربي

ويتابع "إسرائيل ليست ذاتاً نحاورها، بل تطبيق كولونيالي لمشروع الحداثة حين يُطرح في أكثر صوره توحشاً: من نحن، إن لم نُعرّف أنفسنا عبر محو من ليس نحن؟".

وأمام هذا الانكشاف العنيف، لا يرى المسكيني أفقاً للتحرّر في انتظار الخلاص من الغرب، بل في ما يسمّيه بـ"الذات الديكولونيالية"، تلك التي تنبثق من معاناة "معذبي الأرض" بحسب تعبير فرانز فانون، بوصفهم المصدر الأصيل لأي عصيانٍ معرفي حقيقي في وجه لاإنسانية المشروع الغربي.

* كاتب من تونس

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows