
في خطوة تعكس محاولة رسم صورة أكثر انضباطاً للقطاع المصرفي السوري، أصدر حاكم مصرف سورية المركزي عبد القادر حصرية، قراراً يمنع بموجبه قبول الهدايا داخل المصرف، إلا أن الشكوك لا تزال قائمة حول جدواه التطبيقية وإفراغه من مضمونه. وأكد حصرية في البيان الذي صدر أول من أمس الاثنين ونشر الثلاثاء، أن السياسة الجديدة تهدف إلى ترسيخ مبادئ الشفافية والحوكمة الرشيدة، وحماية المال العام من شبهات المحاباة والفساد.
وينص القرار على منع الموظفين، دون استثناء، من قبول أي هدايا أو مزايا أو خدمات يمكن أن تؤثر أو توحي بالتأثير على قراراتهم المهنية، ويشمل ذلك الأموال والشيكات والتحويلات ودعوات السفر والإقامة والترفيه، وحتى الهدايا المتكررة من جهة واحدة خلال فترة ثلاثة أشهر. لكن السياسة الجديدة فتحت استثناءات محددة، تتيح للموظفين قبول ما يُعرف بـ"الهدايا الرمزية" بشرط ألا تتجاوز قيمتها خمسين ألف ليرة سورية (نحو 5 دولارات)، وأن تحمل شعار الجهة المانحة، مع ضرورة التصريح عنها خلال خمسة أيام. كما سُمح بالضيافة المشروعة أثناء المهام الرسمية، والهدايا ذات الطابع البروتوكولي، مع إمكانية رفع سقف القيمة الرمزية بناءً على توصية من لجنة إدارة المصرف.
ورغم الطابع الإصلاحي للقرار، إلا أن الشكوك لا تزال قائمة حول جدواه التطبيقية. فالمصرف نفسه كان قد حذّر، في بيان صادر بتاريخ 16 يوليو/تموز الماضي، من عمليات احتيال استهدفت بعض عملائه وأدت إلى خسارة جزء من ودائعهم، من جراء استغلال حاجتهم لتسييل أموالهم المجمدة، ما سلط الضوء على الثغرات البنيوية في الرقابة الداخلية وآليات الحماية. في هذا السياق، يبدو أن القرار لا يأتي فقط لتنظيم العلاقة داخل المؤسسة، بل لإرسال إشارات أوسع للجمهور بأن المصرف يسعى جدياً لإعادة ضبط سلوكه المؤسسي، في وقت تتآكل ثقة المواطنين بالقطاع المصرفي، وسط أزمات نقدية متواصلة وتضخم وانهيار للعملة.
مخاوف من الثغرات في التطبيق
ومع ذلك، لا يبدد القرار مخاوف كثيرين من تحوله إلى إجراء تجميلي بلا أثر ملموس. ويقول الدكتور عبد الرحمن تيشوري المختص بالإدارة العامة للتنمية الإدارية، في حديث لـ"العربي الجديد": "مثل هذه السياسات تبدو جيدة من حيث المبدأ، لكنها غالباً تُفرغ من مضمونها في التطبيق، بسبب غياب الإرادة الجادة للمحاسبة، وعدم استقلال لجان الرقابة الداخلية". ويضيف: "نص القرار نفسه يتضمن ثغرات يمكن التحايل عبرها، مثل السماح بالهدايا الرمزية والضيافة في إطار الأعراف، وهي مساحة رمادية تسمح بتقديم خدمات أو منافع تحت غطاء 'اللياقة الاجتماعية' أو 'العمل البروتوكولي'".
ويؤكد أن الرشى قد لا تأتي على شكل مال مباشر، بل على هيئة خدمة خاصة، أو تسريع معاملة، أو منح استثناء، وهي أشكال يصعب إثباتها أو ملاحقتها قانونياً. ويختم بالقول: "حتى لو التزم الموظف بنص القرار، يمكن للمراجع أن 'يكافئه لاحقاً' بطرق يصعب ربطها بسلوك وظيفي واضح. ما لم تكن هناك جهة رقابة مستقلة فعلياً، ستبقى هذه السياسات مجرّد نصوص جيدة على الورق".
في المقابل، يرى مسؤولو المصرف أن القرار خطوة ضرورية لفرض الانضباط الإداري، وتقديم بيئة عمل قائمة على الجدارة والمساواة. وأكد حاكم المصرف، عبد القادر حصرية، أن السياسة تهدف إلى "تعزيز القيم المهنية وترسيخ ثقافة المسؤولية"، داعياً المتعاملين إلى الالتزام بها، ومشيراً إلى أنها ستكون متاحة للعموم على موقع المصرف. غير أن المراقبين يرون أن فعالية القرار لن تُقاس بما ينص عليه، بل بقدرته على تغيير الثقافة الوظيفية السائدة، ومواجهة منظومة محسوبية مترسّخة يصعب تفكيكها بمجرد تعميم إداري.

Related News

