لا يجهل أحد مكانة العالِم المسلم عبد الرحمن بن خلدون (1332 - 1406م)؛ فهو أحد أبرز أعلام الحضارة الإسلامية، ويُعدّ بحق مؤسس علم الاجتماع، إذ قدّم فيه نظريات باهرة حول قوانين العمران البشري، ونظرية العصبية، وبناء الدولة ومراحل تطورها حتى سقوطها، إلى جانب رؤى استباقية سبقت ما توصل إليه العديد من العلماء بعده بقرون، أمثال العالم الفرنسي أوغست كونت.
وقد ذكر المؤرخون أن لابن خلدون عدداً من المؤلفات في مجالات متعددة كالتاريخ والحساب والمنطق، غير أن أشهر أعماله يبقى كتاب تاريخ ابن خلدون، أو كما سمّاه هو: ديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، المكون من سبعة مجلدات، يتصدرها ما بات يُعرف بـ"مقدمة ابن خلدون"، وهي مدخل موسع لكتابه التاريخي، وضع فيه أسساً راسخة في الجغرافيا والعمران البشري وأحوال البشر وطبائعهم، وغيرها من المواضيع المرتبطة بعلم الاجتماع. أما بقية المجلدات الستة، فهي تتناول سرداً تاريخياً لأحوال الأقطار العربية من القديم وحتى زمنه.
وقد ألف ابن خلدون مقدمته الشهيرة بعدما اعتزل الحياة العامة، عقب سلسلة من التجارب السياسية المؤلمة، ومصابِه الجلل بوفاة أبويه وكثير من شيوخه إثر انتشار وباء الطاعون سنة 749هـ / 1348م. حينها، اعتكف في قلعة "بني سلامة" قرب وهران في الجزائر، حيث قضى أربع سنوات متفرغاً للبحث والتنقيب في العلوم الإنسانية، ليكتب سِفْره المجيد الذي لا تكاد تخلو جامعة في العالم من أطروحة أو دراسة تناولته بالبحث والتحليل. وقد قال عنه المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي: "ابتكر ابن خلدون وصاغ فلسفة للتاريخ، هي من دون شك أعظم ما توصل إليه الفكر البشري في مختلف العصور والأمم".
يبدو أن شهرة ابن خلدون في علم الاجتماع قد جعلته مرجعاً جاهزاً لنسبة أي مقولة "عميقة" أو "فلسفية" إليه دون تحرٍّ أو تدقيق
إلا أن الغرض من هذا المقال ليس استعراض أعمال ابن خلدون أو تفصيل مقدمته، بل التوقف عند ظاهرة تلفيق الأقوال ونسبتها إليه زوراً، والتي تفشت حتى صارت مألوفة لدى العامة والمثقفين على حد سواء. ويبدو أن شهرة ابن خلدون في علم الاجتماع قد جعلته مرجعاً جاهزاً لنسبة أي مقولة "عميقة" أو "فلسفية" إليه من دون تحرٍّ أو تدقيق.
ومن أبرز هذه المقولات الملفقة، ما ينسب إليه من قول: "عندما تنهار الدول يكثر المنجمون، والمتسولون، والمنافقون، والمدعون، والكَتَبَة، والقوالون، والمغنون النشاز، والشعراء النظامون، والمتصعلكون، وضاربو المندل وقارعو الطبول، والمتفقهون، وقارئو الكف والطالع والنازل، والمتسيسون، والمداحون، والهجاؤون، وعابرو السبيل والانتهازيون".
ثم يضاف: "وعندما تنهار الدول يسود الرعب ويلوذ الناس بالطوائف، وتظهر العجائب، وتعم الإشاعة، ويتحول الصديق إلى عدو، والعدو إلى صديق، ويعلو صوت الباطل، ويخفق صوت الحق، وتظهر على السطح وجوه مريبة، وتختفي وجوه مؤنسة، وتشح الأحلام؛ ويموت الأمل، وتزداد غربة العاقل؛ ويصبح الانتماء إلى القبيلة أشد التصاقاً، وإلى الأوطان ضرباً من ضروب الهذيان، ويضيع صوت الحكماء في ضجيج الخطباء، والمزايدات على الانتماء، ويتقاذف أهل البيت الواحد التهم بالعمالة والخيانة، وتسري الشائعات عن هروب كبير، وتحاك الدسائس والمؤامرات، وتكثر النصائح من القاصي والداني، وتطرح المبادرات من القريب والبعيد! ويتدبر المقتدر أمر رحيله؛ والغني أمر ثروته، ويصبح الكل في حالة تأهب وانتظار، ويتحول الوطن إلى محطة سفر، والمراتع التي نعيش فيها إلى حقائب. والبيوت إلى ذكريات والذكريات إلى حكايات".
وكذلك مقولات أخرى مشهورة تنسب إليه، مثل: "الطغاة يجلبون الغزاة"، و"لو خيرت بين زوال الطغاة أو زوال العبيد، لاخترت بلا تردد زوال العبيد؛ لأن العبيد هم من يصنعون الطغاة ولا يبنون الأوطان".
كل هذه النصوص وأشباهها تتداول على نطاق واسع، منسوبة للعالم الجليل ابن خلدون، من دون سند أو مصدر، بل لا أثر لها في كتابه تاريخ ابن خلدون أو مقدمته الشهيرة. وإذا ما دققنا النظر، لوجدنا أن كثيراً من العبارات المضمنة فيها لا تناسب القرن الرابع عشر الميلادي، الذي عاش فيه ابن خلدون، لا في مفرداته ولا في تراكيبه.
فعبارات مثل: (الطالع والنازل)، (تُطرح المبادرات من القريب والبعيد)، (هروب كبير)، (محطة سفر)، وغيرها، تعكس مفردات وتصورات معاصرة لا علاقة لها بلغة ابن خلدون أو زمنه. بل إن بعض الألفاظ مثل "تنهار" و"يجلبون" لا ترد أصلاً في مصنّفاته، وهو الذي كان يستخدم بدلاً من "يجلبون" تعبيرات كـ"يستظهر بسواهم من أهل النجدة".
وبالعودة إلى كتبه، لا نجد لهذه المفردات أو التركيبات أثراً، ما يؤكد أنها مُلفقة بامتياز، أُلصقت به زوراً لتكتسب مصداقية، أو ربما لتدغدغ وعياً جماعياً يميل إلى الرمزية ويبحث دائماً عن أصوات "نبوئية" تفسر الواقع ببلاغة.
عالِم الفيزياء الشهير ألبرت أينشتاين، الذي نسبت إليه مئات المقولات، بعضها بعيد تماماً عن مجال اختصاصه، بل عن أسلوبه نفسه
وهذه الظاهرة لا تقتصر على ابن خلدون وحده، بل طاولت عالِم الفيزياء الشهير ألبرت أينشتاين، الذي نسبت إليه مئات المقولات، بعضها بعيد تماماً عن مجال اختصاصه، بل عن أسلوبه نفسه. يقول الكاتب البريطاني آندرو روبنسون في مقاله مقولات أينشتاين بين الصحة والزيف: "ربما يكون أينشتاين أكثر عالِم اقتُبِست أقواله على مرّ التاريخ".
أما أليس كالبريس، محررة كتاب The Ultimate Quotable Einstein (2011)، فتقول : "يبدو أن هناك معيناً لا ينضب من أقوال أينشتاين التي تصلح للاقتباس، بين سجلاته المحفوظة الضخمة".
وقد أوردت كالبريس مئات المقولات المنسوبة إليه خطأً، بعضها خضع لاحقاً لمراجعات وتحرير، وبعضها لا أصل له سوى في خيال المُلفّقين.
من أشهر الأمثلة: المقولة الشائعة "الله لا يلعب بالنرد"، التي يعتقد أنها من أشهر ما قاله أينشتاين. لكنها في الحقيقة مقتبسة بصيغة غير دقيقة من خطاب كتبه بالألمانية إلى صديقه الفيزيائي ماكس بورن عام 1926، إذ كتب: "إن ميكانيكا الكم تقدّم لنا الكثير، لكنها لا تقربنا في الحقيقة من اكتشاف سر "العجوز". وأنا – على أي حال – مقتنع بأنه لا يلعب بالنرد". فهو لم يستخدم لفظ "الله" (Gott)، بل استخدم عبارة "العجوز" (Der Alte)، في إشارة رمزية إلى "قوانين الطبيعة" وليس إلى الإله بمفهومه الديني.
فليس كل ما يُنسَب إلى ابن خلدون ابن خلدون، ولا كل ما يُنسب إلى أينشتاين أينشتاين.
ويستمر التلفيق..
Related News


