في المشهد السوري الراهن، يطفو على السطح تناقض صارخ بين الخطاب الرسمي للسلطة الحالية بقيادة أحمد الشرع والممارسات الفعلية على الأرض. هذا التناقض لا يمكن فهمه من خلال ثنائية التفاؤل أو التشاؤم، بل يستدعي مقاربة أكثر تعقيداً، تقترب مما يمكن تسميته بـ"التشاؤل"؛ أي تلك النظرة التي لا تنخدع بالوعود، لكنها أيضاً لا تستسلم لليأس.
التشاؤل، كما صاغه الكاتب والصحافي الفلسطيني إميل حبيبي، هو حالة نقدية يقظة تحلل الواقع بعين ناقدة، لكنها لا تتخلى عن إمكانيات التغيير.
أولاً: الخطاب الرسمي... تفكيك المفاهيم لا الاكتفاء برصد الشعارات
منذ تولي أحمد الشرع رئاسة الدولة السورية عقب سقوط نظام الأسد، انصب الخطاب الرسمي على مفاهيم مثل "المواطنة المتساوية"، و"الوحدة الوطنية"، و"ضمان حقوق الأقليات". وقد وُظّفت هذه المفاهيم بوصفها مؤشرات على نية السلطة الجديدة القطع مع السياسات الإقصائية السابقة، والدخول في مرحلة ما بعد الصراع.
إلا أن غياب إطار مؤسسي واضح لتنفيذ هذه المبادئ يحوّلها إلى خطاب رمزي أكثر من كونه مشروعاً سياسياً فعلياً. فالاعتراف بالمواطنة لا يكون بتكرار المفهوم، بل بإعادة هندسة البنية القانونية والسياسية بما يضمن ممارسته.
ثانياً: الواقع الميداني... استمرار أدوات الدولة الأمنية
الممارسات الجارية على الأرض تشير إلى تناقض حاد مع الخطاب الرسمي، ويمكن رصد ثلاثة أنماط رئيسية في هذا السياق:
1. التمييز الطائفي الممنهج:
وثّقت تقارير إعلامية وحقوقية وقوع انتهاكات ذات طابع طائفي في مناطق السويداء واللاذقية، منها حلق شوارب لمواطنين دروز وسيلةَ إذلال رمزي، والتضييق على ممارسة الشعائر الدينية لبعض الأقليات.
2. العنف الأمني المعمّم:
وقعت مجازر نُسبت لعناصر في الأجهزة الأمنية، لا سيما في مناطق شهدت احتجاجات أو توترات طائفية. مقاطع مصورة وثّقت بعض تلك الانتهاكات، دون أن يتبعها إعلان رسمي واضح عن فتح تحقيقات أو محاسبة للفاعلين.
3. الانتهاكات الحقوقية المنهجية:
استمرار الاعتقالات بناءً على الهوية والانتماء، وغياب العدالة في المحاكمات، كلها مؤشرات على أن أدوات الحكم السلطوي ما زالت حاضرة، حتى بعد التغيير الظاهري في النظام.
ثالثاً: السياق التاريخي... هل هناك انقطاع أم استمرارية؟
من منظور تحليل السياسات، يصعب اعتبار ما يجري حالياً انقطاعاً عن سياسات النظام السابق. بل إن معظم المؤشرات تدل على وجود استمرارية بنيوية في أسلوب الحكم، قائمة على:
- مركزية القرار الأمني
- إقصاء المكونات غير المنضوية في التحالف السلطوي
- استخدام الخطاب الديني أو الوطني أداةَ تغطية لا مشروعاً جامعاً
ويعزز هذا التحليل غياب أية آليات عدالة انتقالية، أو إصلاح جدي في الجهاز القضائي أو الأمني، وهي مفاصل الدولة العميقة التي شكّلت دعائم الحكم في العقود السابقة.
رابعاً: مفارقة الخطاب والممارسة... بين الرمز والأداء
تحمل المفارقة بين الخطاب والممارسة أبعاداً سياسية وثقافية معقدة، من أبرزها:
- تحويل المفاهيم الديمقراطية إلى أدوات نفعية
- إعادة إنتاج السلطة عبر قنوات جديدة
- تدجين المجال العام وتقييده بدل تمكينه
هذه السمات تعكس بنية رمادية لا يمكن تصنيفها بسهولة ضمن نماذج التحول الديمقراطي التقليدية، بل تتطلب أدوات تحليلية مرنة، تلتقط تفاصيل التحول غير المكتمل أو المشوَّه.
خامساً: ما المطلوب؟ مقومات الانتقال الحقيقي
لتحقيق انتقال حقيقي، لا يكفي اعتماد خطاب سياسي مختلف، بل لا بد من:
- تفكيك البنية الأمنية الطائفية
- إطلاق عملية عدالة انتقالية بإشراف وطني ودولي
- بناء عقد اجتماعي جديد يضمن المساواة القانونية والسياسية
- تمكين المجتمع المدني والإعلام الحر
أخيراً: نحو تشاؤل نقدي منتج
في ظل الفجوة بين القول والفعل، لا يكفي التفاؤل الساذج الذي يراهن على الزمن لحل الأزمات، ولا ينفع التشاؤم الكلي الذي يستبطن العجز والاستسلام.
ما هو مطلوب اليوم هو تشاؤل نقدي منتج، يرى المخاطر ويحللها، لكنه لا ينفي إمكانية التحول الحقيقي.
فقط عبر هذا المنهج، يمكن للمجتمع السوري أن يتجاوز الانقسامات والهواجس، ويطالب بسياسات تتجاوز الشكل إلى الجوهر، ومن خطاب المواطنة إلى ممارستها فعلياً.
التشاؤل هنا ليس تأملاً نظرياً عابراً، بل أداة للمساءلة، وللتشبث بالأمل العقلاني لا الوهم الطوباوي.
Related News


