بين سرديات التبرئة وحقائق الميدان، يبرز سؤال لا يحتمل المجاز: من المسؤول حقاً عن خنق غزة من الجنوب؟
المعبر الذي لا يعترف بالإغاثة
منذ أكثر من 15 عاماً، لا يزال معبر رفح الحدودي يمثل أحد أبرز تجليات التناقض بين الجغرافيا والسياسة. فعلى الرغم من أنه يقع بالكامل تحت السيادة المصرية، إلا أنه ظل في أغلب الأوقات مغلقاً أو خاضعاً لشروط تعجيزية، حتى في ذروة المآسي الإنسانية التي يتعرض لها أكثر من مليوني إنسان في قطاع غزة.
وبينما يستمر الاحتلال الإسرائيلي في فرض حصاره الخانق من جهة الشمال والشرق والبحر، فإن البوابة الجنوبية - بوابة رفح - لم تكن في معظم الأوقات ملاذاً آمناً أو ممراً إنسانياً، بل ورقة تفاوض سياسية وأمنية بامتياز.
التضليل الناعم: "المعبر ليس لعبور الشاحنات"
أكثر السرديات شيوعاً لتبرئة الدور المصري تقول إن معبر رفح "مخصص فقط لعبور الأفراد"، وأن إدخال الشاحنات لا يتم إلا عبر معبر كرم أبو سالم الخاضع للاحتلال. لكن هذه الرواية، وإن تكررت مراراً، لا تصمد أمام الحقائق الميدانية.
المعبر ليس عاجزاً عن إدخال الشاحنات، بل هناك قرار سياسي بعدم إدخالها بصورة منتظمة
في أكتوبر/تشرين الأول 2023، وثقت تقارير الأمم المتحدة دخول أولى شحنات المساعدات إلى قطاع غزة عبر معبر رفح مباشرة، وليس عبر كرم أبو سالم. كما تؤكد تقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) والهلال الأحمر المصري وهيومن رايتس ووتش أن معبر رفح استُخدم في فترات كثيرة لنقل الإمدادات الطبية والغذائية، خاصة خلال الأزمات الكبرى.
بعبارة أخرى: المعبر ليس عاجزاً عن إدخال الشاحنات، بل هناك قرار سياسي بعدم إدخالها بصورة منتظمة.
القرار بيد من؟
السؤال الجوهري ليس تقنياً، بل سيادي: من يملك قرار فتح بوابة رفح؟ الإجابة واضحة وصريحة: الجانب المصري فقط باعتباره المتحكم الوحيد في البوابة من جهة الجنوب.
ومع ذلك، تُغلق البوابة مراراً وتكراراً، إما دون تبرير، أو بذريعة "التنسيق الأمني"، بينما تُرك القابعون في قطاع غزة لمواجهة الجوع والقصف وانهيار النظام الصحي.
في الأشهر الأولى من الحرب بعد 7 أكتوبر، تكدست المساعدات الإنسانية في العريش، ومنع دخول الوقود، وتأخرت القوافل الإغاثية أياماً طويلة رغم النداءات الدولية.
مصر: الوسيط الذي يملك مفتاح القفل
يُروّج أحياناً أن القاهرة "مجرد وسيط"، لا تملك التأثير المباشر. لكن الواقع يناقض هذه الفرضية. فمصر: تُسيطر بالكامل على معبر رفح، وتمتلك القدرة على فتحه بشكل دائم ومنتظم، وسبق أن فعلت ذلك في فترات متعددة (2008، 2011، 2012).
الأخطر من ذلك أن المعبر تحول إلى أداة ضغط سياسي في ملفات التهدئة، وصفقات التبادل، والاشتباك مع الفصائل الفلسطينية.
وبدلاً من أن يكون شريان حياة، أصبح جزءاً من أدوات إدارة الحصار، لا كسره.
بين الشراكة في الجريمة والصمت المريب
صحيح أن الاحتلال الإسرائيلي هو الجاني الرئيسي في حصار غزة، لكن من يغلق المعبر الوحيد الذي لا يخضع لسيطرته يتحوّل من مراقب إلى شريك. وهذه الشراكة، سواء جاءت بدافع الضغوط أو الحسابات السياسية، لا تُعفي من المسؤولية الأخلاقية والإنسانية.
حصار غزة لا يُدار فقط عبر الأسلاك الشائكة والطائرات، بل أيضاً من خلال البوابات المغلقة والتواطؤ بالصمت
في النهاية، فإن حصار غزة لا يُدار فقط عبر الأسلاك الشائكة والطائرات، بل أيضاً من خلال البوابات المغلقة والتواطؤ بالصمت.
سؤال يستحق المواجهة لا المراوغة
المعبر ليس ممراً للإغاثة فقط، بل معيار لصدقية المواقف.
وكلما بقي مغلقاً، سقطت مزاعم "الوساطة النزيهة" و"الدور الإنساني".
على القاهرة أن تختار: إما أن تكون جزءاً من الحل، أو أن تبقى شريكاً في كارثة مستمرة اسمها الحصار.
Related News


