
لطالما كانت إسرائيل (وما زالت) معنيّةً بالصورة الإعلامية، وباستخدام كلّ الوسائل الممكنة لفرض الهيمنة لسرديّتها؛ فقد حرصت الصهيونية، حتى قبل تأسيس الكيان، على التأثير في "هوليوود"، عبر امتلاك الاستوديوهات الكبرى في صناعة السينما الناشئة، ثمّ امتلاك شبكات البثّ الإعلامية وكبريات الصحف العالمية، التي تمكّنت من إقناع غالبية الجمهور الغربي عموماً، والأميركي على وجه الخصوص، بالرواية الصهيونية. ولم يكن الإعلام، منذ تأسّست دولة الاحتلال، مجرّد أداة للترويج، بل اعتُبر سلاحاً متقدّماً في ترسانة الدولة، وفهم مصطلح "الهسبارا" (الإعلام) دبلوماسيةً إعلاميةً في مستويات مختلفة، وتوزّع أعبائها بين أكثر وزارات الدولة ومؤسّساتها أهميةً، وصولاً إلى جماعات الضغط اليهودية في الخارج. وأصبح يروّج أن "كسب معركة الرأي العام الدولي، لا يقل أهمية عن أيّ معركة جوية أو برّية"، حسبما كتب آلان ديرشوفيتس، مؤلف كتاب "The Case for Israel" (2003). غير أن الحرب الدائرة في العامين الأخيرين، وعمليات الحصار والتجويع والمجازر اليومية التي ترتكبها إسرائيل، وميل قطاعات واسعة من الشباب على وجه الخصوص إلى الإعلام غير التقليدي، جعلت ما كان ينظُر الإسرائيليون إليه شرعيةً دوليةً مكتسبةً، ووسيلةً للردع المعنوي للخصوم، يتحوّل جبهة قتال تهدّد أمن إسرائيل القومي، ما أدّى، في النهاية، إلى كسر الاحتكار الصهيوني للرواية، وفوجئ العالم بأن ما تكرّر على مسامعه طوال العقود الماضية عن "تحضّر" الإسرائيليين، وعن الفلسطيني "الإرهابي"، والعربي "البدوي"، ما هو إلا محض افتراءات ودعاية صهيونية كاذبة.
وخلال العقود الماضية، اعتمدت إسرائيل على ثلاث ركائز إعلامية؛ فحرصت دائماً على تقديم نفسها ضحيةً دائمةً للعداء العربي والإسلامي، وربط أيّ هجوم عليها بالإرهاب ومعاداة السامية، واحتكار تعريف العنف والمظلومية. وهي ثلاثية ضمنت لها تدفّق الدعم الرسمي الغربي، وتأييد شرائح واسعة لكيانٍ جرى تقديمه امتداداً للديمقراطية الغربية، وسط محيطٍ قمعيٍّ متخلّف، ولأرضٍ جرى تصويرها "أرض ميعاد لشعب مُضطهَد". صحيحٌ أن غالبية الدعم الرسمي الغربي لم يتوقّف، لكنّ التأييد الشعبي تآكل مع قصف الجيش الصهيوني المستشفيات والمدارس وتدمير مقوّمات الحياة في غزّة، والتجويع الممنهج حتى الموت؛ الذي بدأ منذ الأيام الأولى للعدوان الصهيوني، ووصل إلى ذروته في الأشهر الماضية.
يتغيّر المشهد، وتنقلب الرواية، وتتحوّل إسرائيل من دولة مُحاصِرة، إلى دولة مُحاصَرة أخلاقياً
ويمكن القول إن خسائر إسرائيل في هذه الحرب تركّزت في ثلاثة اتجاهات: أولها، الأزمات المجتمعية التي فاقمت الحرب، والمجتمع الذي تعمّقت أزماته وتفكّكه. وثانيها، الجيش الذي فقد قوة ردعه، والقدرة على الانتصار وتحقيق أهداف الحرب التي وضعها في الأيام الأولى من القتال. أمّا الخسارة الكبرى فتكمن في انقلاب الرواية ضدّ إسرائيل على المستوى الشعبي العالمي، وخصوصاً في أوساط الشباب.
لا ينكر أحد بالطبع أن طول أمد الحرب يمثّل عامل ضغط كبير على المقاومة وحاضنتها في غزّة، خصوصاً في ظلّ سياسة الحصار الخانق والقتل بالتجويع، لكن الواضح أن هذا الضغط الذي تستخدمه إسرائيل، رغبةً منها في دفع المقاومة إلى اللجوء إلى أيّ اتفاق يلبّي كلّ احتياجات إسرائيل، أو إلى الاستسلام الكامل، حسب لفظ الرئيس الأميركي ترامب ومعه القيادة الإسرائيلية... طول أمد الحرب، نقول، سلاح ذو حدّين؛ فمن ناحية يبدو السيناريو المستخدم حالياً ورقةً أخيرةً بعد أن عجزت إسرائيل وحلفاؤها عن تحقيق هدفَي الحرب الأساسيَّين (استعادة الأسرى وهزيمة المقاومة) بكلّ وسائل الضغط العسكري والاجتماعي الممكنة، وفي ظلّ حالة إعياءٍ وإرهاقٍ شاملة لجيشها يؤكّدها كلّ الخبراء العسكريين الإسرائيليين، لكنّه، في الوقت نفسه، يدفع الشعوب التي تشاهد تصرّفات الجيش الصهيوني، التي فاقت النازية، وبموافقة كاملة من الإدارة الأميركية، إلى كراهية إسرائيل، وهو ما تثبته استطلاعات الرأي، ويمثّل خطراً استراتيجياً على الكيان الصهيوني، لأن استمرار الصراع، كما تذكر دراسة نشرها معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، بعنوان "أمن إسرائيل القومي... المبادئ الموجّهة للعقيدة والسياسات لعامي 2025-2026"، يعطي الشرعية للسردية الفلسطينية، ويسبّب ضغوطاً كبيرةً على إسرائيل وحلفائها ومؤيّديها، ما قد يقيّد حرّيتها في التصرّف، ويعرّضها للإدانة والعزلة في الساحة العالمية، وربّما يقلّص الاهتمام الدولي باحتياجاتها الأمنية مستقبلاً. وهو أمرٌ أصبح ملموساً بوضوح في تحوّلات مواقف إعلاميين ومشاهير عالميين، وانتقادهم النازية الصهيونية، بعد تأييدهم في أول الحرب إسرائيل، علاوة على اضطرار قادة دول للتهديد بالاعتراف بفلسطين.
هذه المواقف إمّا محاولةً لعدم خسارة هؤلاء الإعلاميين والنجوم شعبيّتهم وجماهيرهم، أو أنها صحوة ضمير مفاجئة، في كلّ حال، وبغض النظرّ عن حقيقة أن الدولة الفلسطينية التي تهدّد دولٌ غربيةٌ بالاعتراف بها هي فاقدة لأيّ مقومات الدولة الحقيقية، ولا تعدو نيّة الاعتراف بها التهديد، فإن هذه المؤشّرات هي دليل تراجع واضح وخسارة كبيرة للسردية الصهيونية. وقد كشفت استطلاعات رأي أوروبية، نشرتها صحيفة ذا غارديان في يونيو/ حزيران الماضي، أن الدعم الشعبي لإسرائيل في دول غرب أوروبا وصل إلى أدنى مستوى له على الإطلاق، ناهيك بالطبع عن العالم الإسلامي وأميركا اللاتينية وأفريقيا ودول شرق آسيا، وأن المقارنة بين هذا الدعم قبل الحرب وبعدها يكشف كارثةً استراتيجيةً لإسرائيل؛ فالرؤية السالبة تجاه الكيان تتصاعد على المستوى الشعبي الغربي، حتى تدنّت نسبة من لديه رؤية إيجابية عن الكيان، لتنحصر بين 13% - 21% من إجمالي الأوروبيين الغربيين، مقابل ارتفاع نسبة من لديه رؤية سالبة عن الكيان بين 63 - 70% مع استمرار ارتفاعها، وهي نسب تختلف من دولة أوروبية إلى أخرى؛ إذ تصل إلى 75% في إسبانيا والسويد، وترتفع إلى 78% في هولندا، بل إن هذه النظرة السالبة ارتفعت أيضاً بين مواطني دول شرق أوروبية؛ مثل بولندا (62%)، والمجر (53%)، رغم التأييد الحكومي المُعلَن للخطاب الصهيوني، على عكس حكومات غرب أوروبا، التي يضطرها الرأي العام إلى انتقاد الحكومة الإسرائيلية أحياناً، من دون أن يؤثّر ذلك في وقف دعمها العيني والعسكري لإسرائيل. ولا تقتصر هذه الآراء على أوروبا وحدها، فقد أظهر استطلاع أجراه مركز بيو (إبريل/ نيسان الماضي) أن آراء الأميركيين تجاه إسرائيل ازدادت سلبيةً؛ فأعرب 53% عن رأي سالب تجاهها، وهي نسبة مستمرّة في الارتفاع.
ولم تكن هذه الاستطلاعات إلا انعكاساً لموجة رفض شعبي أوروبي لاستقبال الإسرائيليين في الفنادق والمنتجعات والمطاعم، وبثّ مشاهد مصوّرة في مواقع التواصل الاجتماعي تظهر حجم الرفض تجاه الكيان الصهيوني، وتزيد من حدّته. وهي مظاهر انعكست حتى في تقييم الإسرائيليين لمدى شعورهم بهذه الأزمة، وأصبح أكثر من 58% منهم، حسب استطلاع أجري في يونيو الماضي، يشعرون بأنهم غير مرحّب بهم في أيّ مكان في العالم، وهي نسبة زادت أكثر لاحقاً لتصل إلى 62%، حسب ما نشرته "يديعوت أحرونوت" في الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، وأصبح التعبير السائد لدى الإسرائيليين "العالم بات ضدنا"، مع اعتقادٍ جازم بأن الحكومة الإسرائيلية فشلت في المعركة الإعلامية.
أظهر استطلاع مركز بيو أن 53% من الأميركيين عبّروا عن رأي سالب تجاه إسرائيل
ثمّة مشكلة يغفل عنها الإسرائيليون؛ حين يردّ بعضهم أسباب الفشل الإعلامي إلى عدم استغلال الموارد التي توفّرها الدولة لكسب معركة الرواية. في هذا السياق، ترى الصحافية في "يسرائيل هيوم"، شيريت كوهين، في مقال نشر في يونيو الماضي، أن وزارة الخارجية لم تستغلّ أكثر من نصف مليار شيكل (135 مليون دولار) مخصّصة للدعاية والإعلام، ونتيجة ذلك تلاشت صور "7 أكتوبر" (2023)، ولم يبقَ سوى الحرب الوحشية التي ينفّذها الكيان في غزّة، وهو ما يكلّف إسرائيل، ليس فقدان التعاطف فحسب، بل تعرّضها لسياسات عدائية من دول قريبة أو بعيدة. وتنبع الأزمة هنا، في حالة العمى الإستراتيجي التي تسيطر على الحكومة الإسرائيلية ومؤيّديها، منذ هجوم 7 أكتوبر، فلم يعد هؤلاء يدركون أن سقوط السردية الإسرائيلية لا يرتبط في الحقيقة بتقصير الخارجية الإسرائيلية أو إهمالها، خصوصاً حين يظهر للعيان أن الإدارة الأميركية ومسؤوليها، علاوة على مسؤولين وقادة دول أوروبية، يتبنون جميعاً الرواية ذاتها التي يروّجها الكيان الصهيوني. وبالتالي فإن خسارة السردية الإسرائيلية المعركة لا ترتبط بالتقصير أو بحجم الإنفاق، خصوصاً أن موارد أصحاب الرواية الأخرى لا يمكن أن تقارن مطلقاً بموارد إسرائيل وحلفائها. وهذا يعني أن مصداقية الرواية الفلسطينية المدعومة بالصورة المباشرة والشهادات الحيّة، وبالدم، وبالأشلاء الممزّقة، تمكّنت وحدها، ومن دون موارد تذكر، أن تحطّم زيف أيّ أكاذيب إسرائيلية.
السردية إذاً ليست ترفاً إعلامياً، بل هي جزء من العقيدة الأمنية الإسرائيلية. ويدرك أكثر الباحثين الإسرائيليين المهتمّين بالاستراتيجية، وغالبية المعارضين أن خسارة هذا السلاح في ظلّ استمرار الحرب، وارتكاب المذابح اليومية، والقتل بالتجويع، تمثل خطراً استراتيجياً على قدرة الكيان المستقبلية في الحفاظ على الدعم الغربي أو تبرير سياساته... وهكذا يتغيّر المشهد، وتنقلب الرواية، وتتحوّل إسرائيل من دولة مُحاصِرة إلى دولة مُحاصَرة أخلاقياً. وتلك معركة لا يمكن خوضها بالدبابات ولا بأقوى سلاح جوي في الشرق الأوسط، بل بالصور والكلمات والدم والضمير الشعبي العالمي.

Related News

