فاديفول وأمير... الوزير الألماني والطفل الغزّي
Arab
2 hours ago
share

يحيّرنا كثيراً بعض السياسيين الغربيين، حينما يطالبون إسرائيل بوقف الإبادة في غزّة بقولهم إن "إسرائيل تواجه عزلةً دوليةً" نتيجة الإبادة، كما صرّح أخيراً وزير خارجية ألمانيا يوهان فاديفول. بمعنى أنّ ما يهمّه ليس الأطفال الذين يتضوّرون ويموتون جوعاً، وبسببهم يجب أن تتوقّف الإبادة، ولكنّ الوزير يخاف على صورة إسرائيل الدولية من أن تتشوّه نتيجة ما يبثّ في شاشات التلفزة من جرائم حرب يرتكبها جيشها في قطاع غزّة. أيّ امتهان للنفس البشرية هذا من "العالم المتحضّر"، وأيّ نزع للصفة الإنسانية هذا عن أطفال غزّة.
غاب عن ذهن الوزير الألماني أن من فقد الصفة الإنسانية ليسوا أطفال غزّة، فهم متمسّكون بها مهما حاول نزعها منهم، فرغم الإبادة المستمرّة منذ نحو عامين، ما زال أطفال غزّة يحافظون على براءتهم وصدق مشاعرهم التي تظهر فيما فعله الطفل الغزّي أمير (10 سنوات)، والوزير يعرفه جيّداً. قبّل يد الجندي الأميركي أنتوني أغيلار (العامل في مؤسّسة غزّة الإنسانية) ووجهه، وشكره لقاء كيس صغير من الأرز، قبل أن يسقط برصاص الغدر، وقبل أن يوصل الكيس إلى والدته التي انتظرته، فلم يعد. لم تنل واقعة أمير القاسية من إنسانيّته، فقد عرف كيف يشكر أغيلار، وهو الذي فقد والده شمالي غزّة في قصف إسرائيلي وحشي، قبل أن ينزح مع والدته إلى جنوبها، ثمّ يخاطر بحياته من أجل كيس من الأرز يسدّ به رمق والدته ومعدتها الخاوية. انتصر أمير لإنسانيّته التي دفعت أغيلار إلى الاستقالة من المؤسّسة التي تقمّصت صفة الإنسانية، وذهب يحدّث الشعب الأميركي عن أمير وعمّا تفعله أموال دافعي الضرائب الأميركية، من مساندة لآلة القتل في غزّة.

انتصر الطفل الغزّي أمير لإنسانيته التي دفعت الجندي الأميركي أنتوني أغيلار إلى الاستقالة من مؤسّسة غزّة التي تقمّصت صفة الإنسانية

براءة أمير وإنسانيته، اللتان أيقظتا ضمير أغيلار، لم تهزّا (للأسف) ضمير وزير خارجية ألمانيا، فوصل إلى إسرائيل يحضّ رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو على وقف التجويع، ليس لأن أمير يستحقّ الحياة، ولكن لأن قضية أمير أثّرت في صورة إسرائيل في الساحة الدولية. لم تُفقد تصريحات فاديفول القبيحة أمير براءته، ولكنّها أفقدت الوزير إنسانيّته، وشهادته العلمية، وهو يحمل الدكتوراه في القانون، ومن المفترض أن يكون المدافع الشرس عن تطبيقاته، خصوصاً في مناطق الصراع. التناقض واضح بين أمير وفاديفول: طفلً يفقد حياته من أجل كيس أرز يطعم به والدته الجائعة، ووزير يحمل الدكتوراه في القانون من جامعات "الغرب المتحضّر"، يقدّم السلاح والمال والغطاء الدبلوماسي لمجرمي حرب مطلوبين لمحكمة الجنايات الدولية، يرتكبون أول إبادة في التاريخ تُغطّى ببثّ حي ومباشر في شاشات التلفزة العالمية. فمن يعلّم من أيها الوزير؟ أتعلّم أميراً القانون وتطبيقاته، أم يعلّمك هو الإنسانية التي تنكّرت لها وشهادتك العلمية، التي لم تحترم مَن منحك إياها في المقام الأول؟
يبرز السؤال: ما الذي يدعو دكتور القانون إلى التنكّر لأبسط القواعد الإنسانية، ولعلمه في القانون الذي دأب أكثر من عقد على تعلّمه وتعليمه، وأن ينغمس في مستنقع الإبادة، الجريمة الكبرى في تاريخ الإنسانية؟... لا ينمّ هذا عن جهل أو عدم معرفة، وهو الذي تدرّج في مواقع رسمية متعدّدة، حتى وصل إلى درجة وزير. ولكن هناك أكثر من تفسير لسلوكه، فأولاً هو يحاول الدفاع عن صورة "الديمقراطية الغربية المتحضّرة" التي ينتمي إليها، ويرى نفسه من خلالها، ويرى إسرائيل مكوّناً رئيساً فيها، في مقابل صورة العربي المشرقي "الإرهابي"، ولا يريد لهذه الصورة أن تتأثّر، لا بتجويع أمير وقتله، ولا بقتل غيره من عشرات آلاف من أطفال غزّة. تريد ألمانيا، التي نصّبت نفسها للدفاع عن نظام الإجرام في تل أبيب، المحافظة على هذه الصورة التي تُسائل بها "العالم المشرقي غير المتحضّر" عن حقوق الإنسان، والديمقراطية الزائفة التي عكفت عقوداً على تسويقها لهم.

حان الوقت ليتعلّم فاديفول وميرز وشولتز وبيربوك الإنسانية والطهارة والبراءة من الطفل أمير

وثانياً، قطع أجداد فاديفول العهد على أنفسهم بعد الحرب العالمية الثانية، وهو النظام الذي قام على أنقاض ألمانيا النازية، بأن الفظائع التي ارتكبت خلال الحرب لن تكرّر (never again). اليوم، يتحدّى قادة تل أبيب هذا النظام، ويوثّقون جرائم حرب تتحدّى أسس النظام العالمي الذي بناه الغرب بعد الحرب العالمية الثانية، وضمن لهم (ألمانيا وغيرها من الدول الغربية) الموقع المتقدّم فيه، والقوة الناعمة والأخلاقية التي يسائلون غيرهم بها، خصوصاً دول عالم الجنوب التي قيل فيها إن مؤسّسات النظام الدولي ("الجنائية الدولية" مثلاً) أقيمت لمحاكمة قادة دول عالم الجنوب. وليس من المصادفة أن تهبّ ألمانيا للدفاع عن نتنياهو في وجه محاكمته في المحكمة الدولية. لقد أدخل نتنياهو وزمرته القادة الألمان في صراع مع عهود آبائهم وأجدادهم الألمان التي قطعوها على أنفسهم، وهم يروْن اليوم بالتوثيق الدقيق أن تلك الفظائع تُكرّر بأيديهم من خلال الدعم السخي، العسكري والمالي والدبلوماسي، الذي يقدّمونه إلى المنفّذين في الأرض.
أخيراً، من المهم التذكير بأن المشكلة ليست خاصّة بفاديفول وحده، بل تتمثّل في نظام ألماني غربي متكامل، ورموزه الذين اتخذوا مواقف مشابهة لمواقف وزير الخارجية، ومنهم رئيس فاديفول، فريدريش ميرز، ومستشار ألمانيا السابق أولاف شولتز، ووزيرة الخارجية السابقة أنالينا بيربوك، التي أباحت قتل المدنيين في غزّة، في خطابها في المؤسّسة التشريعية الألمانية (البوندستاغ)، "عندما يختبئ أفراد حماس بينهم"، على حدّ وصفها. لقد حاضر "الغرب المتحضّر" كثيراً عن "الشرق المتخلّف" (برأيهم)، وقد حان الوقت ليتعلّم فاديفول وميرز وشولتز وبيربوك الإنسانية والطهارة والبراءة من أمير.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows