فهم الخطر الفاشي في فرنسا...
Arab
3 hours ago
share

أصبح الحديث عن "عودة الفاشية" في الديمقراطيات الغربية، لا سيّما في فرنسا، موضوعاً لا يقتصر على التحذير النضالي، بل يدخل في صلب التحليلين السياسي والاجتماعي. ولا تتجلّى هذه العودة عبر انقلاب عسكري أو شعارات نازية صريحة، بل من خلال مسار ناعم، زاحف، يجد مبرّراته في خطاب الأمن والهُويَّة، ويتغذّى من تفكّك الدولة الاجتماعية، وتآكل المؤسّسات الديمقراطية، وشرعنة التمييز العنصري ضدّ فئات بعينها.
شهدت الرأسمالية منذ الثمانينيات تحوّلاً نحو النموذج النيوليبرالي، الذي قلّص دور الدولة في حماية المواطنين وأضعف مكتسبات الطبقات العاملة، باسم "الإصلاح الاقتصادي". ترافق ذلك مع تفكيك تدريجي لشبكات التضامن الاجتماعي، عبر سياسات خصخصة، وتقشّف، وإصلاحات سوق العمل. لكن هذه السياسات لم تُنتج فقراً وهشاشةً فقط، بل خلقت أيضاً فراغاً سياسياً، وشعوراً عاماً بالعجز وفقدان السيطرة على المصير، ما أتاح المجال لبروز خطابات سياسية قائمة على الحنين، والهُويَّة، وكراهية الآخر.

فشلت أحزاب اليسار في تقديم بديل جذري وشامل للنموذج النيوليبرالي. وبعض مكوّناتها تبنّت أجزاءً من خطاب اليمين المتطرّف

لم تأت السلطوية من فراغ. في سياق تصاعد الأزمات الاقتصادية وفقدان النُّخب السياسية التقليدية شرعيتها، بدأت السلطة التنفيذية تميل إلى التمركز. همّشت المؤسّسات الوسيطة، من برلمان ونقابات وأحزاب، لصالح تكنوقراط يتصرّفون وفق منطق إدارة الأزمات لا منطق الحكم الديمقراطي. هذا التمركز انعكس في إصدار قرارات استثنائية، وتوسيع صلاحيات الشرطة، والتضييق على الحريات العامة، ما حوّل الديمقراطية من ممارسة حيّة إلى واجهة شكلية.
في هذا السياق، يجد اليمين المتطرّف أرضاً خصبة. فمن خلال استراتيجية "إزالة الشيطنة"، أصبح يقدّم نفسه بديلاً "شرعياً" من الأحزاب التقليدية، متخلّياً عن معاداة السامية الصريحة، ومتبنّياً خطاباً يستهدف المسلمين والمهاجرين باسم "الدفاع عن الهُويَّة الوطنية". هذه النقلة لم تُلغِِ الجوهر الفاشي للمشروع، بل أعادت تشكيله بلغة جديدة: رفض التعدّدية الثقافية، والخوف من "الانحطاط"، والتمجيد القومي. ما يُثير القلق أن هذه الأطروحات لم تعد حبيسة أحزاب اليمين المتطرّف فقط، بل تسلّلت إلى خطاب النُّخب السياسية والإعلامية، مبرَّرة بـ"التهديد الإسلامي"، و"حماية قيم الجمهورية". وساهم هذا التواطؤ غير المُعلَن بين الخطاب النيوليبرالي واليمين الهُويَّاتي في تحويل العنصرية موقفاً مشروعاً، بل سياسةَ دولةٍ، إذ بات التمييز يُشرعَن أمنياً ومؤسّساتياً تحت مسمّى "محاربة التطرّف".
في الوقت نفسه، ساهمت الأنظمة النيوليبرالية في تقويض السيادة الوطنية، من خلال تفويض صلاحيات اقتصادية مهمة لمؤسّسات تكنوقراطية عابرة للدول، مثل البنك المركزي الأوروبي والمحاكم الأوروبية. تُرسي هذه المؤسّسات، رغم ادّعائها الحياد، سياسات اقتصادية منحازة بوضوح لرأس المال، ممّا يُفرغ السيادة الديمقراطية من مضمونها، ويدفع فئات شعبية واسعة إلى الشعور بالتهميش السياسي، ويغذّي انجذابها نحو حلول راديكالية، حتى إن كانت استبدادية.
ضمن هذا المشهد، لم تكن الأحزاب اليسارية بمستوى التحدّي، فقد فشلت في تقديم بديل جذري وشامل للنموذج النيوليبرالي. والأخطر أن بعض مكوّناتها تبنّت أجزاءً من خطاب اليمين المتطرّف، ظنّاً منها أنها بذلك تقطع الطريق على تصاعده. لكن ما حدث العكس: طُبّع خطاب الكراهية، وتآكل التمايز بين اليسار واليمين، ممّا رسّخ هيمنةً فكريةً جديدةً قائمة على الأمن والخوف والهُويَّة، بدلاً من المساواة والعدالة الاجتماعية.
في هذا السياق، لا يمكن اعتبار صعود حزب التجمع الوطني مفاجئاً. بل هو نتاج مباشر لتحوّلات عميقة في البنية السياسية والاجتماعية. فهذا الحزب لم يغيّر جوهره، بل طوّع خطابه ليصبح أكثر ملاءمةً للذوق العام، متخلّياً عن الرموز الفاشية الصريحة، ومتبنّياً في الظاهر شعارات اجتماعية، من دون أن يتخلّى عن مشروعه القومي الإقصائي. فانتقاداته للعولمة تبقى سطحيةً، غير مرتبطة بأيّ نقد جذري للرأسمالية، بل موجّهةً ضدّ العولمة الثقافية والهجرة، كأعداء مزعومين للهُويَّة الوطنية.

لا يمكن مواجهة الفاشية إذا بقي اليسار منقسماً أو مكتفياً بخطاب أخلاقي دفاعي

إن الخطر الفاشي اليوم لا يكمن فقط في فوز انتخابي محتمل لهذا الحزب أو ذاك، بل في عملية زاحفة تُطبّع فيها الفاشية ضمن النسيج المؤسّسي والديمقراطي نفسه. فحين تتحوّل سياسات القمع والتضييق على الحريات والتمييز العرقي إلى جزء من "الطبيعة السياسية" للدولة، تفقد الديمقراطية معناها، وتصبح الفاشية الجديدة مجرّد استمرار للنظام القائم، بلغة أكثر صدقاً ووضوحاً. لذلك، من الضروري بناء جبهة مناهضة للفاشية لا تكتفي برفض اليمين المتطرّف، بل تذهب إلى الجذور: مقاومة النيوليبرالية، واستعادة دور الدولة الاجتماعية، والدفاع عن الحريات الديمقراطية. هذه الجبهة يجب أن تكون متعدّدة الأوجه، تربط بين النضالات الاجتماعية، ومناهضة العنصرية، ومعركة الهيمنة الفكرية. لا يمكن مواجهة الفاشية إذا بقي اليسار منقسماً أو مكتفياً بخطاب أخلاقي دفاعي. المطلوب هو مشروع جماعي قادر على استعادة المبادرة، وتقديم بديل فعلي يعيد الاعتبار للعدالة والمساواة والديمقراطية.
مواجهة الفاشية ليست معركة سياسية فقط، بل معركة من أجل المعنى: أيُّ نوع من المجتمع نريد؟ ما هو مفهومنا للهُويَّة الوطنية؟ وما هو دور الدولة في حماية الضعفاء؟ هذه الأسئلة لا يمكن تركها لليمين المتطرّف ليجيب عنها وحده. فإمّا أن يُعاد بناء مشروع تحرّري جامع، أو يُترك المجال مفتوحاً أمام مستقبل يتّجه بثبات نحو الاستبداد، تحت أقنعة ديمقراطية زائفة.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows