
لو حاولنا رواية ما يحدث في غزّة بعيداً من التحليلَيْن، السياسي والقانوني، سنخلص إلى وحشٍ يقود حرب إبادة ضدّ شعب كامل، بأحدث الأسلحة، ولا يكتفي، بل يستعمل التجويع لإنزال الموت البطيء من خلال فرض حصار مُحكَم، ثمّ يأتي العالم ويتوسّل إليه بأن يسمح بتمرير فتات الطعام إلى ضحاياه، ويقبل شروطه، ويتصرّف وكأنّ هناك قحطاً أو كارثة طبيعيّة في منطقةٍ نائيةٍ يصعب الوصول إليها، فيما نُغفِل القاتل ونطلب رضاه. وأهل غزّة هم أفضل من يكتب روايتهم، ولكنّني أحاول أن أكتب عارَنا ولن أنجح؛ هو عارٌ لن نستطيع غسله، بل نتابع ونشاهد كيف يأتي مزوّد أسلحة الوحش، ويُتحفنا بفيلم نزوله في غزّة على ظهر مقاتلةٍ حربيةٍ يتحقّق من المصيدة التي نصبها سيّده في البيت الأبيض، تحت مسمّى "مراكز إعانة وتوزيع" بكلّ برود، ليطمئننا بأنهم سيزيدون حجم الفتات. لكن ستيف ويتكوف لا يقبل (ولا يريد) أن يضمن توقّف عمليات القنص والقصف أو التجويع. مشهد لا يمكن أن يتخيّله أيّ كاتب فيلم ذعر في هوليوود، مع أنّ المقتلة مصوّرة حركةً وصوتاً، وتصل إلى مختلف أرجاء المعمورة. ويتكوف رسول الموت، الذي يلوم الضحية ويغذّي الوحش لينهش لحم الجميلة غزّة، ويجول في العواصم العربية بحرّية، ونحن مجرّد مشاهدين شلّنا العجز، وشلّ حكوماتنا الخوف على ضياع السلطة. لكن المشهد أقبح من ذلك. قبل ذلك يلتقي المجتمع الدولي والدول الكبرى في نيويورك للاعتراف بـ"دولة فلسطينية"، فيما الشعب الذي تُراد له الدولة يذوي، والوحش يقرض أراضيه في سلسلة من إرهاب الجيش الإسرائيلي في غزّة، وإرهاب المستوطنين في الضفة الغربية والقدس المحتلّتَين.
تلتقي دول في نيويورك للاعتراف بـ"دولة فلسطينية"، فيما الشعب الذي تراد له الدولة يذوي، والوحش الإسرائيلي يقرض أراضيه
طبعاً، راعي الوحش (يزوّده بطعام ويشحذ أظافره وأنيابه) يرفض (ويلعن) إعلان نيويورك، لأن الوحش الإسرائيلي وحده المخوّل بتقرير مصير الشعب الفلسطيني، فهو ملْك له، ينهشه متى يرغب، ويرميه متى يشاء. هي صورة قاتمة، لكن هناك نقطة ضوء، أو نقاط تضيء وتخفت، وسيّد البيت الأبيض يزداد جنوناً في سعيه لطمس أيّ بقعة منها، من تغيّر في الموقف الأوروبي (وإنْ جاء متأخّراً جدّاً) إلى (وهي الأهم) قوة موجة الشعوب التي تنتصر لفلسطين، ولا تكتفي بالتضامن معها فقط. أصبحت فلسطين قضيتها وليست قضيةً بعيدةً لشعب بعيد، بل هي ردّة روح في إنسانيتها وإرادتها التي أغشت بصيرتها أكاذيب الإعلام ولغة القوة.
الموجة الإنسانية التي يتوسّع هديرها هي مصدر الضوء الأقوى، الذي نحاول أن يبقى وينير لنا الطريق، لأن آهات الجوع وصرخات الموت تقبض على نفوسنا، وتحيلها كتلة حزنٍ وإحباطٍ وخوفٍ من استمرار المقتلة، كيف لا والدول الشقيقة والقريبة تتسابق على التطبيع مع الوحش، أي القبول بالوحش، والاعتراف بشرعية زجّه الشعب الفلسطيني في معسكر اعتقال في أرضهم، وتدخل معه لعبة إسقاط رزمات الطعام من الجو بدلاً من فتح بوابات السجن الكبير.
لن أزاود... ولن أدّعي أن أيّ مساعدة تصل إلى غزّة غير مفيدة؛ لكنّ نقاط الموت ينتجها الاستسلام لإملاءات الوحش، ويجعلنا شركاء في الجريمة، مهما كانت نيّاتنا أو أوهامنا، إذ إننا نأخذ الطريق الأسهل، فتبدأ الدول القريبة والشقيقة ببناء أحلامها بمستقبل مزدهر، وتنسى ألّا مستقبل يمرّ فوق أجساد أطفال غزّة.
ما تقدّم ليس إنشاءً، فلستُ بارعة في هذا اللون، ولكنّه حقيقةَ واقعِنا، ولا هروب من ذلك، إلا إذا أصبحنا فاعلين، فحين ينزل مئات الألوف في شوارع عشرات العواصم والمدن الأوروبية واللاتينية، وحتى في قلب أميركا نفسها، وتنشد "ليفا بالستينا" و"دمّي فلسطيني"، تُمنع المظاهرات، ويُمنع رفع علم فلسطين في بعض العواصم العربية، ويكاد يختفي من المهرجانات الغنائية والثقافية، وأصبح هناك ثمن يدفعه الفنان حين يتوشّح بالعلم الفلسطيني أو الحديث عن فلسطين بكلمة، فيما يرفع الفنّانون والجمهور العلم الفلسطيني في مهرجانات الموسيقى والسينما في العالم. تساهم دولنا في خفت الضوء، لخوفها من اشتعال شعلة التغيير، مع أنه ليس هناك معارضة قوية في دولة عربية تحاول الانقلاب عليها (أو تستطيع)، لكنّها ترى شرعيتها من الخارج، وليس من الداخل، فواشنطن أهم من الشعوب بأكملها.
لكنّ الخلل ليس في الدول فقط، يبعث أهل غزّة العزّة رسائل لتحويل أموال يسدّون بها حاجاتهم، بينما تتراكم الثروات في وطنه الأكبر، فيكتشف أهل غزّة أن لا وطن أكبر لهم، وأن "بلاد العُرب...". سيحاسبوننا يوماً، وجميعنا يستحقّ المحاسبة، وبالأخص من يخاف أن يفلت قرشاً من ثروته لشفاء جريح وإنقاذ حياة طفل غزّي، ومن لهث ويلهث ليثبت للعالم أنه حضاري "ويعشق إسرائيل"، بل وضع لائحة من الأعذار والحجج التي تفكّر فيها إسرائيل لتبرير جرائمها ووحشيتها.
تبني الدول القريبة والشقيقة أحلامها بمستقبل مزدهر، وتنسى ألّا مستقبل يمرّ فوق أجساد أطفال غزّة
هناك تغيير في العالم، وهذا المقال ليس دعوةً إلى التشاؤم، بل لمواجهة أنفسنا لئلا نبدّد هذا التحوّل، فالسكون هو استهتار بحياة كلّ فلسطيني، فإذا احتاج بعض الإعلاميين والسياسيين إلى 60 ألف شهيد فلسطيني للاستيقاظ، فإلى كم نحتاج نحن؟
طبعاً يأتيك السؤال ماذا نفعل؟... الخيارات صعبة، ولكن الشرط هو عدم اليأس، وهناك من يفعل كثيراً، فلننضمّ إليهم. أعترف أن ليس لدي الإجابات الأكثر نجاعةً، لكن المشاركة في حركة المقاطعة هي إحدى الإجابات، وإحدى الوسائل المهمة، بل مهمّة جدّاً. المشاركة في بعث التبرّعات، وفي نشر الوعي، فمن أصعب ما نواجهه يومياً هو شباب وشابّات لا يعرفون عن فلسطين شيئاً، ولا عن أوطانهم وقضاياهم العربية، ولا يفهمون ما يجري، ولا يستلهمون شباب العالم الذي أصبح خبيراً ومدافعاً بليغاً عن القضية الفلسطينية.
في المقابل؛ بزغ جيل ناشط لا يقبل الهوان ولا الاستسلام، ويتحدّث بقوة وشجاعة وفهم وعلم. صحيح أن طريقنا طويل، لكن واجبنا بثّ روح الأمل، لأنّ الهزيمة هي فقدان الأمل والثقة بالنفس، وليس لدينا رفاهية الاستسلام إذ يُرسَم مصيرنا. فما تفعله أميركا وإسرائيل واضح، ولا تخفيانه، تقولان لنا إننا منطقة نفوذ إسرائيلية، وليس لنا إلا السكوت على الجريمة، وأن نكون إخوة يوسف، وبذلك يكون خلاصنا الجمعي بخضوعنا وخنوعنا. غير أننا بذلك لا نفعل إلا أن نزيد شهية الوحش، الذي يرى وجوده واستمراره بإلغاء كينونتنا.

Related News


