
مع دخول الحرب في السودان عامها الثالث، يكابد مرضى السرطان معاناة مريرة تتوزع بين تكرار النزوح، ونقص الدواء، وقلة المستشفيات والمراكز المتخصصة التي يفترض أن تقدم لهم الرعاية الطبية.
تسببت الحرب المتواصلة في السودان منذ منتصف إبريل/نيسان 2023، في تدمير مراكز علاج السرطان، وقطع سلاسل توريد الأدوية النادرة وباهظة الثمن وحفظها، ما يعرض حياة آلاف المرضى للخطر، والكثير منهم تضاعفت آلامهم نتيجة النزوح.
وأجبرت الحرب أكثر من 40 ألف مريض بالسرطان، من بينهم أطفال، على قطع جلسات علاجهم، والكثير منهم نازحون على مدار أكثر من عامين، من بينهم محمد عبد الله، والذي كان على وشك التعافي من سرطان البروستات، لكنه قطع جلسات علاجه بمركز الخرطوم للأورام بعد اشتداد الاشتباكات في العاصمة، ونزح إلى ولاية الجزيرة (وسط) بحثاً عن فرصة لاستكمال علاجه في مركز المعهد القومي للسرطان بالولاية، وهو ثاني أكبر مراكز علاج السرطان في السودان، لكنه اضطر إلى النزوح مجدداً بعد أن امتدت الحرب إلى الجزيرة، واتجه إلى مركز الشرق للأورام في ولاية القضارف على الحدود مع إثيوبيا، ومن هناك اتجه إلى مركز مروي لعلاج الأورام لإكمال علاجه.
يقول عبد الله لـ"العربي الجديد": "قبل الحرب كنت على وشك إنهاء علاجي نهائياً، وأخبرني الأطباء أنني قد أتعافى في غضون أشهر معدودة، لكن الحرب قطعت علاجي، واضطررت إلى النزوح ثلاث مرات، ثم وصلت إلى مروي شمالي السودان. بعد أن كنت أحصل على الأدوية وجميع العلاجات بالمجان في مركز الخرطوم للسرطان، أصبحت أدفع في مركز مروي نحو ألف دولار تكلفة جلسة العلاج الواحدة، وبعد أشهر قليلة نفدت مدخراتي المالية، لكني كنت أكثر حظاً، إذ استطعت الوصول إلى مصر عبر التهريب بحثاً عن العلاج". يضيف: "حالتي حالياً أسوأ مما كانت عليه عندما تم تشخيص إصابتي قبل أربع سنوات، ويرجع هذا إلى عدم انتظام العلاج، وتكرار النزوح لما يقرب العام قبل الوصول إلى مصر. آلاف المرضى لقوا حتفهم بعد توقف مراكز العلاج، وبعضهم كانوا قريبين من التعافي، وآخرون عادوا إلى المرحلة الأولى من العلاج. العلاج على قلته في السودان أصبح تجارياً، وكلفته تتجاوز قدرة المرضى الذين فقدوا مدخراتهم، أو استنفدوها خلال رحلة النزوح".
أصيبت كوثر مريود (69 سنة) بسرطان الثدي في فبراير/شباط 2024، واضطرت إلى السفر من مدينة أم روابة في إقليم كردفان إلى مدينة شندي بولاية نهر النيل لتلقي العلاج. تقول لـ"العربي الجديد": "قطعت نحو 700 كيلومتر من أجل الوصول إلى مركز العلاج لعدم توفر الأدوية الضرورية، ثم انتقلت إلى مصر عبر التهريب لتلقي العلاج هناك. قطعت مسافة تقترب من ألفي كيلومتر بين مصر والسودان بوسائل نقل غير مريحة، ما ضاعف من معاناتي، ولو أن العلاج كان متوفراً في السودان لما احتجت إلى السفر عبر التهريب الذي أنهك جسدي".
بدوره، قطع عبد المتعال محمود مسافة تزيد على 800 كيلومتر من ولاية جنوب كردفان إلى ولاية القضارف من أجل العلاج في مركز الشرق للأورام، لكنه لم يجد ضالته، وحاول الانتقال إلى مركز مروي، لكنه توفي في الطريق. يقول ابنه ويدعى حامد عبد المتعال لـ"العربي الجديد": "تم تشخيص والدي بسرطان في الرئة في أكتوبر/تشرين الأول 2024، ولأن جميع المرافق أغلقت في ولاية شمال كردفان نتيجة حصارها من قبل قوات الدعم السريع، حاولت نقله إلى أقرب مستشفى في القضارف، ما احتاج منا إلى ستة أيام من أجل الوصول بسبب توقف جميع وسائل النقل، لكن مركز الأورام بالقضارف كان مزدحماً بالمرضى، ولا يتوفر فيه العلاج بالأشعة، وأبلغونا أنه متوفر في مركز مروي، فقررت نقل والدي إليه، لكنه مات قبل وصولنا بسبب مشقة الطريق، والنقص الحاد في الغذاء المناسب لحالته، وعدم توفر الرعاية الصحية".
فارقت عائشة موسى الحياة أيضاً بعد توقفها عن العلاج من سرطان الغدد الليمفاوية بمركز الأبيض للأورام، وتقول شقيقتها عائدة: "حصلت عائشة على ثلاث جلسات فقط، لكن بسبب انعدام الدواء بالمركز تراجعت حالتها، إلى أن فارقت الحياة".
وتقول مديرة مركز الأبيض للأورام بإقليم كردفان، فدوى شوقين، إن الأدوية غير متوفرة بالمركز، ويضطر المرضى لشرائها من السوق السوداء بأسعار باهظة إن توفرت. وتضيف لـ"العربي الجديد": "منذ بدء الحرب قبل أكثر من عامين، لم يحصل مركز الأورام على أي أدوية للسرطان سوى مرة واحدة، رغم أن المركز يستقبل ألاف المرضى من إقليمي كردفان ودارفور".
وتتابع شوقين: "نخبر المرضى أنه ليس لدينا علاج نقدمه لهم، ونرشدهم إلى السفر للمناطق التي يتوفر فيها العلاج، لكن تواجههم مشكلات في السفر، فالطرق مقطوعة، ووسائل النقل متوقفة، إلى جانب نفاد مدخرات غالبية المواطنين الذين ظلوا من دون عمل لأكثر من عامين. البديل هو أن يبحث المريض عن طريقة يحصل بها على الأدوية، سواء من بورتسودان أو عطبرة أو مروي. حالياً تتوفر بالمركز بعض الأدوية البسيطة، أما بقية الأدوية فهي معدومة تماماً".
يصف اختصاصي علاج الأورام مدير مركز الخرطوم للأورام، أحمد عمر، أوضاع مرضى السرطان خلال فترة الحرب بأنها قاسية للغاية، ويقول لـ"العربي الجديد": "هناك شح في العلاج الكيماوي والهرموني، أما العلاج الإشعاعي فلا يتوفر سوى في مركز مروي للأورام، وهو يقع في أقصى شمالي السودان، ويكلف الوصول إليه أموالاً طائلة. أجرينا منشدات كثيرة للدول المانحة، والمنظمات الدولية، وللجمعيات والمؤسسات التطوعية والخيرية للمساعدة، ومعالجة مرضى السرطان، وأخبرناهم بنفاد الأدوية الكيماوية والهرمونية الضرورية للعلاج، لكن يبدو أنه لا توجد حلول في الوقت الراهن".
ويقر مدير مركز الشرق للأورام بولاية القضارف، إبراهيم مرسى، بانعدام الكثير من أدوية السرطان، ويقول لـ"العربي الجديد": "قبل الحرب كانت هناك أزمة كبيرة في اليود المشع المستخدم لعلاج الغدة الدرقية، وهي مستمرة حتى اليوم، فهذه المادة الضرورية للعلاج غير متوفرة في السودان، ما يجعل المقتدرين من المرضى يلجؤون العلاج في الخارج، أما من ليس لديهم القدرة المالية، فلا يملكون بدائل. أبسط علاجات السرطان غائبة، وهناك نقص كبير في جميع الأدوية، والعلاج بالأشعة لا يتوفر إلا في مركز مروي، ويقدم تجارياً للمرضى، وتكلفته تتراوح بين 2,5 إلى 3,5 ملايين جنيه سوداني، ما يعادل (1000 إلى 1500 دولار)، وبالتالي يفوق قدرة غالبية المرضى الذين يعانون من ظروف الحرب والنزوح".
ويضيف مرسى: "إلى جانب كلفة العلاج الباهظة، يواجه المرضى مصاعب عديدة في الوصول إلى مركز مروي بسبب موقعه النائي في أقصى الشمال، وهو يبعد آلاف الكيلومترات عن ولايات كردفان والجزيرة ودارفور، كما يعاني المرضى من أزمة السكن في مروي، في ظل ارتفاع إيجار العقارات في المُدن التي لم تمتد إليها الحرب. يضطر المريض لاستئجار سكن بما لا يقل عن مليون جنيه (نحو ستمائة دولار)، لأن الفترة الزمنية بين كل جلسة وأخرى ما بين ثلاثة إلى ستة أسابيع، ومن لا يملك المال يقيم تحت الأشجار أو في العراء إلى أن يكمل جلسات علاجه".
وفي ديسمبر/كانون الأول 2023، توقف أحد أكبر مراكز علاج السرطان في السودان في مدينة ود مدني بولاية الجزيرة، ويقول طبيب عمل سابقاً بالمركز، طلب عدم ذكر اسمه، لـ"العربي الجديد"، إن "المركز كان يقدم كافة الخدمات العلاجية لمرضى السرطان، بما فيها العلاج بالأشعة غير المتوفر حالياً. تعرض المركز لتدمير واسع في الأجهزة والمعدات، ما تركه خارج الخدمة حتى اليوم". وتتطابق هذه الإفادة مع حديث وزير الصحة بولاية الجزيرة، أسامة عبد الرحمن، والذي يؤكد لـ"العربي الجديد"، أن "أضراراً لحقت بالأجهزة والمعدات بالمركز، بما فيها جهاز التخطيط وبقية الأجهزة الأخرى التي تعرضت للسرقة. محاولة إعادة تشغيل المركز تجري حالياً، وتمكنا من صيانة جهاز الرنين المغناطيسي، ونتوقع أن تكتمل صيانة بقية الأجهزة في وقت لاحق".

Related News



