
لم يُنهب بلد، في العصر الحديث، ربما كما سورية. فبعد النهب المعتاد والمتداول في الأنظمة المستبدة، وهي على قيد الحكم والسلطة، الذي مارسه المورّث حافظ الأسد عبر ثلاثين سنة وتابعه الوريث، بأكثر فجاجة وعلانية، عبر أربع وعشرين سنة، لم يتوانَ بشار عن سرقة المصرف المركزي وأموال الشعب ليلة سقوطه، في حادثة أرّخها الإعلام وشهدها العالم، بكونها ظاهرة فريدة وغريبة، لا تستمد غرابتها من سرقة ما تبقى في سورية فقط، بل ومن وقاحة الدول التي استقبلت المسروقات وآوت السارقين، برسالة خطرة على المجتمعات والمستقبل، شيفرتها باختصار أن للقتلة وسارقي الشعوب ومقدراتهم وآمالهم، دولاً تؤويهم وتوظف الأموال المنهوبة، وليذهب القانون والحقوق إلى الجحيم.
هذا بمنتهى الوضوح والسفور ما فعلته دولة عربية شقيقة وروسيا الاتحادية، قبيل وفي أثناء سقوط عصابة الأسد نهاية العام الماضي، وقت استقبلت طائرات محملة بالأموال والمعادن الثمينة والوثائق، بل وعديد من أركان عصابة بشار الأسد، لتصنفهم بخانات المستثمرين ورجال الأعمال، أو تمنح حق اللجوء لمن توقعت أن تطاولهم يد العدالة، وإن بعد حين. ربما، أو على الأرجح، لو لم تتسلح تلك الدول، وغيرها ممن وظّف أموال الأسد الملوّثة، بأسلحة غياب المحاسبة واستقواء سلطة النظام السوري، وقد يكون الأهم، العقوبات المفروضة على أركان المعارضة السورية، أوروبياً وأميركياً، لما فتحت أجواءها لطائرات محملة بالعار والأموال المنهوبة، وما استقبلت فاسدين، جلهم طاولته قوائم العقوبات الدولية وتجميد الأموال والمنع من السفر.
ولكن اليوم، مع تسارع الأحداث إلى أبعد مما تصوّر أكثر السوريين تفاؤلاً، سواء من سقوط عصابة الأسد بدمشق وما تلاها من بناء علاقات دولية للسلطة الحالية، قبل رفع العقوبات، الأميركية والأوروبية، عن سورية والرئيس أحمد الشرع، بل وعلى جبهة النصرة يوم الاثنين الماضي، بات استمرار تجميد الأموال الحكومية بالخارج، خارجاً عن القانون وبنود رفع العقوبات، وأصبح هناك اتجاه وتعاطٍ جديدان للأموال المنهوبة، إن لم نقل إن استردادها لإنعاش الاقتصاد السوري المنهك، فرض عين على السلطة بدمشق وواجب على كل من رفع عنها العقوبات، ويسعى نظرياً للأخذ بيد السوريين لينتقلوا إلى طور العيش الآدمي، بعد سني الحرمان والتجويع والتهجير.
قصارى القول: أعلن مصرف سورية المركزي، أخيراً، بعد توقيع الرئيس دونالد ترامب أمراً تنفيذياً بإلغاء العقوبات الأميركية على سورية، إطلاق خطة رسمية لاستعادة الأموال السورية المجمدة في الخارج، في خطوة محققة ستنعكس، بشكل أو بآخر، إيجاباً على الاقتصاد الوطني واستقرار سعر الصرف.
وستُسهم الأموال المجمدة بحال استعادتها، رغم محدوديتها، في التعافي المالي، بالتوازي مع جهود لإعادة ربط سورية بشبكة التحويلات المالية العالمية "سويفت"، وتوسيع العلاقات مع مؤسسات مالية دولية. فيما لم يأتِ حاكم المصرف المركزي بدمشق، ولا غيره من مسؤولي الإدارة الجديدة، على الأموال المنهوبة بذكر. وللعلم، ثمة فارق وشاسع بين الأموال المجمدة التي تخصّ سورية دولةً، وكانت مرسلة أو مودعة لاستيراد مواد أو منتجات أو صفقات حكومية، فجُمِّدَت بعد سلوكيات عصابة الأسد الإجرامية أو بعد عقوبات دولية على أركان الحكم، سواء كانوا أشخاصاً طبيعيين أو اعتباريين كما المصرف المركزي أو مؤسسات رسمية. في حين أن الأموال المسروقة المهربة إلى الخارج، أو حتى المنهوبة باستخدام القوة أو الضغط والابتزاز، كما خطط الإتاوات التي كان يمارسها النظام البائد على أصحاب الأعمال بسورية، تعود لأشخاص، سواء كانوا من آل الأسد أو شركائهم، ولا علاقة للحكومة، كما المجمدة، بها.
وهذه الأموال، المسروقة أو المنهوبة، هي الأكبر والتي يمكن لسورية الدولة وللسوريين، أن يعولوا عليها فيما لو استعيدت، فمن يعرف تعاطي حكم الأسدين، حافظ وبشار، منذ عام 1979 حتى مطلع 2025، مع ملف النفط والتهريب وسرقة ثروات سورية وتهريبها للخارج بأرصدة الأبناء والأحفاد، سيعي مدى ضخامة تلك الأموال ومدى مساهمتها بنقل سورية، من إلى، أو ربما، وليس ذلك من الطوباوية بمكان، أن تغني سورية عن القروض لإعادة الإعمار.
ولكن، ولئلا نسوّق الأمر على أنه سهل ومتاح، يتحقق كما الأموال المجمدة، عبر جرّة قلم من أصحاب القرار بالدول المجمدة للأموال الحكومية، أو نكتفي بالإشارة إلى أن اتفاقية مكافحة الفساد المطبقة دولياً، منذ عام 2005، ستعيد بقوة القانون وبنود الاتفاقية، للسوريين أموالهم المنهوبة. فهنا وبحال الأموال المنهوبة، سلوكيات مختلفة وتعاطٍ آخر، محفوف بالمماطلة والإنكار وضرورة السير، على الأقل، بأربع خطوات. أُولاها تعقب هذه الأموال، ومن ثم التأكد من الاستحواذ على هذه الأموال عبر ضبط التدابير الضرورية لهذه الأموال، ليأتي ما يسمى الفصل في النزاع والحكم القضائي والنهائي قبل أن تأتي الخطوة الأخيرة بحكم إرجاع الأموال إلى البلد.
وطبعاً، إلى جانب تلك الخطوات، لا بد من التدابير الرسمية للمساعدة القانونية المتبادلة وفق ما تذكره الاتفاقات الأممية، عبر تبادل المعلومات بين الشرطة والأطراف المعنية. وبعد ذاك، يأتي دور السلطات القضائية التي عليها إصدار قرار بتجميد هذه الأصول العائدة للأشخاص المتهمين بنهب المال العام. وأياً كانت خطوات استرداد أموال السوريين المنهوبة، من الصعوبة وطول الزمن وحتى المقاضاة، فهي تستأهل لسببين: الأول حجمها الكبير الذي يذهب البعض بتقديره لأكثر من مئة مليار دولار، والسبب الثاني معنوي ونفسي، يتعلق باستعادة الحقوق وسيادة القانون، ومفاعيله لا تقتصر على السوريين وإراحتهم، بل على جميع الدول التي يحكمها الاستبداد ويبدد ثرواتها الديكتاتوريون.
إذ من غير المتوقع أن تفصح المصارف السويسرية عن حجم إيداعات أموال أسرة حافظ الأسد، أو تعلن روسيا الأصول والموجودات لآل الأسد ومخلوف. كذلك من الصعب أن تخبر الإمارات العربية أو الدول الأوروبية عن قيم الاستثمارات العائدة للعصابة التي حكمت سورية لنيف ونصف قرن، وجرى التلاعب خلال تهريبها أو توطينها أو تسجيلها بأسماء شركاء ووسطاء ومتعاونين. فالأمر ليس سهلاً بالتأكيد، لكنه في الآن نفسه، لم يعد مستحيلاً اليوم، بعد ما تلقاه سورية من مدّ اليد والمساعدة، وبعد فقدان الأسد الشرعية، وطاولته الملاحقة، وأصبح السوريون ممثلين عن ملكياتهم وحقوقهم.
نهاية القول: نكرر ونعيد أن استعادة الأموال المسروقة أو المهربة بالقوة، وتسمى منهوبة، ليس بالأمر اليسير، سواء لناحية إثبات أنها منهوبة أو خضوع الدول المستضيفة لشروط ومعاهدات إعادة تلك الأموال أو بعضها، لكن سير حكومة الرئيس أحمد الشرع، على هذا الطريق، فرض عين وحق للسوريين من جهة، ولإثبات الجدية والنزاهة من جهة ثانية. لأن المعارضة خلال سني الثورة، حاولت مراراً استرجاع الأموال المهربة، لكنها واجهت عقبات، حالت دون الاستمرار. فالدول الكبرى في "مجموعة الثماني" أو مكتب الأمم المتحدة المعني بمكافحة الجريمة، لم تتخذ، وقتذاك، أي إجراءات ضد نظام الأسد ورموزه، سوى تجميد أصول بعضهم، من دون البدء بمحاولة استردادها، كما جرى في ملاحقة الأصول في دول الربيع العربي في مصر وتونس وليبيا، كذلك لم يُعترَف بالمعارضة السورية ممثلاً قانونياً للشعب السوري، ما زاد من تعقيد استرجاع الأموال السورية المنهوبة حينذاك، بيد أن الوضع اختلف بالمطلق الآن، بل وأضيف إليه حسن علاقات دولية مع الإدارة في دمشق ومحاولات دعم إدارة الرئيس الشرع... وإن لغاية بنفس يعقوب.

Related News


