
في أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، وبعد نحو شهر من بدء حرب الإبادة على غزّة، أصدرت دار نشر بوب ليبريز التونسية مجموعة قصصية جماعية تحت اسم "المسافة صفر". استلهمت المجموعة قصصها مما يقع في القطاع، ومع نشرها أثارت المجموعة احتفاءً لدى البعض، واستهجاناً من آخرين. استهجان مردّه نفور تلقائي تبديه الأوساط التونسية من عادة كتابة اللحظة الراهنة أدبياً، خوفاً من التسرع أو إسقاط رؤى على أحداث ما زالت تصنع. وفي أحيان أخرى، تقال صراحة تلك الجملة: "الركوب على الأحداث".
وفي أكثر من محطة، وتحديداً في المحطات الكبرى، كثيراً ما أكد الأدب التونسي الاجتماعي والسياسي، إنتاجاً وذائقة على حدّ سواء، نزوعه الدائم نحو الأمس. حتى المحطتان الكبيرتان في حياة التونسيين منذ 2011: الثورة وانتقال السلطة للرئيس قيس سعيّد في 2021، لم يكسرا هذا النمط إلا في القليل النادر. صحيح أن الحدثين أثّرا في الحركة الأدبية، إلا أنهما نقلاهما للإجابة عن أسئلة الماضي عوض الوقوف عند تحدّيات الراهن.
استعادة رواية المعارضة
تبدو كتابة الأمس، الميدان المحبب للكتابة، وهو أمر لا يمكن تفسيره فقط بعوامل مثل الخشية من الرقابة السياسية، التي تضعف كلّما تمادى الزمن للوراء. بل إننا نجد الظاهرة لافتة حتى بخصوص الأعمال الأدبية التي يمكن نعتها بأدب بروباغندا النظام القائم، كما هو الحال مع مسرحية حمّادي بن حماد "ملحمة التجنيس" التي ألّفها سنة 1986 لصالح مدح نظام بورقيبة القائم، ولكن من خلال الحديث عن حادثة وقعت قبل الاستقلال بعقدين على الأقل.
أبدى أدب السجون فصلاً صارماً بين الثورة وما قبلها زمنياً
بعد الثورة، تحول النظام السابق إلى موضوع غير منفصل عن جلّ الكتابات التونسية. أعمال كثيرة ذات شحنة سياسية واضحة، نشرت في هذا الصدد. واحدة من الثيمات المحببة لهذه الأعمال، كانت اليد الأمنية لنظام زين العابدين بن علي والعالم السفلي للحركات السياسية، وخصوصاً اليسارية، وتفاعلاتها مع النظام وأجهزته. بعض من هذه الروايات نال شهرة كبرى، مثل رواية "الطلياني" لشكري المبخوت، التي حصل على إثرها على جائزة نوبل للأدب سنة 2015. بطل الرواية كان يسارياً سابقاً عاش الحركات الاحتجاجية الطلابية العنيفة، قبل أن يدجّنه النظام الأمني في النهاية. هذه الأجواء الأمنية الخانقة، التي تغطي بها الرواية عالم ما قبل 2011، ينقل مثيلاً لها وربّما أعنف، محمد الصالح بوعمراني، في روايته "كوسطا" (2020)، التي تنقل الصورة من زاوية أخرى هي زاوية مسؤول أمني رفيع في دولة بن علي. وفي الروايتين، تأتي الثورة كحدث فاصل زمني ينتهي عملياً عنده السرد فاعلاً، لنتحول إلى مرحلة "حساب" يجازى فيها الأبطال أو يحاسبون، لا غير. وكأننا أمام عالمين منفصلين، تقطعهما الثورة ولا تبني جسوراً بينهما.
في صنف آخر من الأعمال، يكون هذا الفصل أكثر حدة وقطعية، وتحديداً في روايات أدب السجون، وهو صنف أقدم من الثورة، إذ ظهر في الأدب التونسي أيام بورقيبة مع رواية كريستال (1982) -وهي رواية استثنائية في كتابة اللحظة الراهنة- غير أن أوجه جاء إثر الثورة. وعلى خلاف السرد الخيالي، حيث برزت الأقلام ذات الانتماء السياسي اليساري أكثر، اشتهرت في أدب السجون الأقلام ذات الخلفية الإسلامية، بداية مع رواية دراقة للسجين السياسي بشير الخلفي، ثم أعمال عبد اللطيف العلوي وغيره. فيما كتب سجناء سياسيون يساريون أعمالهم الخاصة على غرار عبد القادر الحاج يحيى والصادق بن مهني صاحب سارق الطماطم. تكمن المفارقة هنا في أن أدب السجون، وإن أبدى فصلاً صارماً بين الثورة وما قبلها زمنياً، إلا أنه كان من صميم الصراعات السياسية لمرحلة ما بعد الثورة، بين الإسلاميين في السلطة والمعارضة اليسارية، حيث وظّفه كل طرف باعتباره نوعاً من الدعاية النضالية المكسبة لمشروعية الحكم أو المعارضة. وبالتالي عوض أن يتحول أدب السجون لأدب تونسي جامع، أمسى "سجيناً للأيديولوجيا" كما كتب سمير ساسي، الروائي والسجين السياسي.
كتابة الثورة بين الأمل والانكسار
"آه يا امرأة، لو كنت أصغر بعشر سنين" هكذا تحسّر سي حميدة، بطل رواية الغربان (2018) لحسين الواد، وهو يتنصت لأخبار الثورة المشتعلة في البلاد. ليلتها عندما هرب الرئيس، شرب الكهل احتفالاً بسقوطه، كما لم يفعل منذ سنوات طويلة. وعلى امتداد أربعمئة صفحة، تنقل الواد بنا من مشاعر السعادة والاستبشار، إلى لحظة الارتباك ثم السقوط. حاول حميدة إعادة روابطه اليسارية القديمة، مطلع الثورة، ولكنه فشل، ثم حاول الانضمام إلى صفوف الإسلاميين، ولكن دون جدوى. ثم هبّت عليه رياح العنف السياسي والانفلات الأمني والحركات الإرهابية التي عاشتها البلاد، لتكنس ما بقي من أحلام الثورة. قبل أن يهوي في النهاية مريضاً في مستشفى الأمراض العقلية. سي حميدة مثال على المثقف الذي جرفته أحلام الثورة العريضة مبكراً، ولكنه لم يكن الوحيد. ففي مكينة السعادة (2016) لكمال الزغباني، تصبح السعادة حرفياً سلعة من سلع الثورة، يوهم بها الجماهير مقاول مجهول، يدعي قدرته على بناء مدينة مكرسة كلّياً للبهجة. هذه الرواية السابقة للغربان، قامت على الخلطة نفسها: شيخ سلفي معمم ومثقف مغمور، وبوليس سابق، ومخبرون وبائعات هوى. إضافة إلى مصير واحد محتوم، هو الخيبة والمرارة. ولكن اللافت هنا، أن هذه الخيبة، كانت خيبة مثقفين بالأساس، لا خيبة جماهير.
تكثيف الخيبة والانكسار في كتابات ما بعد الثورة
الجماهير الواسعة، وقود الثورة، وصاحبة أحلام التشغيل والكرامة والعدالة الاجتماعية، لم تنل الحيز الذي تستحقه إلا في مرحلة متأخرة ولاحقة لمرحلة ما بعد الثورة. و"الأوج الفسيح"، رواية كمال الهلالي الصادرة سنة 2024، مثال على هذا. كتب الهلالي روايته عن قرية منسية في الجبال البعيدة غربي القيروان، تلك المنطقة الصامدة رغم التهميش منذ قرون، إلى اللحظة التي احتلت جبالها مليشيات من الإرهابيين -مرة أخرى- سنوات إثر الثورة. في هذه الرواية، لا يتحدث الهلالي عن الثورة مطلقاً، ولكنه يقفز مباشرة لنتائجها الأولية: انفلات الأمن وتضاعف اللامساواة الاقتصادية، وتهاوي العرى الاجتماعية لقرى الوسط الغربي. منذ البداية، تتشبّع الرواية بمناخ الانكسار والهزيمة، وكأنها تستأنف مسيرتها من اللحظة التي خابت فيها آمال الآخرين. عند شجرة المشمش، تلف الطفلة نور حبلاً على رقبتها، على أمل أن تلتحق بزملائها في القسم ممن سبقوها في الانتحار. في تلك السنوات، انتحر في أرياف القيروان الفقيرة عشرات الأطفال فعلاً. ولكن الهلالي، ذخر لنور مصيراً آخر، هو النجاة. أبهرها نور القمر وذكريات الأحباب، وأنقذها أفق الجبل الفسيح. في ذلك الكم من الخيبة، ترك الهلالي بصيص نور لمواصلة المسير "في زمن ثورات خلنا أنها ستُبرئنا من أعطابنا" كما كتَب بعد صدور روايته.
25 يوليو والكتابة المعطوبة
في 25 يوليو/ تموز 2021، ليلتها أنهى الرئيس قيس سعيّد الحياة البرلمانية القائمة، وأمسى صاحب السلطة السياسية المطلقة. وفي الأشهر الموالية علّق العمل بالدستور وبمؤسسات النظام السياسي القائم منذ 2011. مثّل الحدث صدمة ما زالت النخب والحركات السياسية واقفة عندها. أما الحياة الأدبية، فتبدو صدمتها مضاعفة، إذ توارى الحدث السياسي الراهن، وغاب بشكل شبه مطلق عن الأعمال المنشورة في الثلاث سنوات الماضية. وباستثناء عمل وحيد، لم يخلُ من نبرة هجوم واضحة، تحت عنوان فرنكشتاين تونس (2023) لكمال الرياحي، لم تظهر محاولات لتقييم المرحلة أو استشراف مستقبلها. حتى مؤلف قصص الخيال العلمي سامي المقدم، لم يزد في استشرافه لمستقبل البلاد في ظل المقاربة الأمنية القوية للسلطة، على أن يكتب سطراً وحيداً هو "تونس 2027: وكر النسور".
العجز عن مواجهة الواقع والقادم، والركون الآمن لكتابة الأمس، قد يحتوي في أحيان ما على ما يكفي من الإشارات والتلميحات وإسقاطات واقع اليوم بحصافة وذكاء، ولكنه يبقى في النهاية قاصراً عن خلق الزخم المطلوب ومنح الأدب المكانة الرفيعة في معارك الشعوب ومحطاته الكبرى.

Related News
