
في حين كشفت صحيفة هآرتس الإسرائيلية أوامرَ تلقاها الجيش الإسرائيلي لاقتناص أهالي غزّة بالقتل العمد، وهم ينتظرون بعضاً من الغذاء، في ما تحوّل (بحسب وصف أحد الجنود) حقلاً للقتل، انشغل الإعلام البريطاني بردّات فعل غاضبة على هتاف مغنٍ في مهرجان غلاستنبري الشهير، مردّداً: "الموت للجيش الإسرائيلي". الإعلام الذي تغاضى عن نقل تقرير "هآرتس" المرعب أو نقاشه، وما تلاه من تسريبات جديدة حول مشاركة مرتزقة أميركيّين في عمليات القتل، استنفر في المقابل قواه وأفراده ومساحاته لنقاش الحدث الجلل في المهرجان، الذي اعتُبر ضرباً من "معاداة السامية"، حين غابت أخبار القتل العمد للمدنيين إلى حدّ كبير من التغطية. هل يعتبر هتاف عضو فرقة الهيب هوب، الذي يحمل تعابير من خطاب الحقد ضدّ جيش يقوم بالقتل الممنهج أكثر أهميةً من القتلى أنفسهم؟
يشكّل الجدال، وما يستتبعه من ملاحقات جنائية، خروجاً عن تقاليد المهرجانات الثقافية الشعبية في بريطانيا، التي غالباً ما تشهد تعبيرات سياسية راديكالية تثير الجدل
يشكّل الجدل حول مهرجان غلاستبنري، الذي شهد أخيراً هتافات مؤيّدة لفلسطين، وقرارُ تصنيف حملة "فلسطين أكشن" منظّمة إرهابية، حلقتَين متقدّمتَين في عملية الإسكات المتمادية للأصوات العالية والمؤثّرة ضدّ إسرائيل في بريطانيا. وقد أحيل أحد أعضاء فرقة "نيكاب" للهيب هوب إلى التحقيق لدى الشرطة، بتهمة دعم مجموعة محظورة، لرفعه علم حزب الله خلال أحد العروض في لندن العام الماضي، في حين قال المغنّي ليام أوهانا إنه حمل العلم من دون أن يعرف معناه. كذا، أعلنت الشرطة البريطانية أن العروض التي قدّمها مغني الراب بوب فيلان، إلى جانب فرقة نيكاب في مهرجان غلاستونبري، تخضع لتحقيق جنائي بسبب هتافات فيلان بموت جيش الاحتلال. أثارت الهتافات في المهرجان وشعبيتها بين الجمهور، زوبعةً من الاحتجاج في الإعلام والسياسة، بحجّة أن الفرقة تجاوزت حدود النقد، وأن المهرجان الصيفي الأكثر شعبيةً في البلاد قد سُيّس. قدّمت هيئة الإعلام العمومي البريطانية (بي بي سي) اعتذاراً لنقل الحفل مباشرةً، في حين دان رئيس الوزراء كير ستارمر الهتافات، واصفاً إيّاها بـ"تحريض مروّع على الكراهية"، وطالباً من "بي بي سي" أن توضّح "كيف بُثّت هذه المشاهد". في الوقت نفسه، أعلنت الهيئة أنها لن تعيد بثّ العرض المباشر للمغنّي بوب فيلان بسبب الشعار الذي ردّده أمام الجمهور.
يشكّل الجدال، وما يستتبعه من ملاحقات جنائية، خروجاً عن تقاليد المهرجانات الثقافية الشعبية في البلاد، التي غالباً ما تشهد تعبيرات سياسية راديكالية تثير الجدل، من دون أن تستتبع بملاحقةٍ أمنية. فرقة "نيكاب" الآتية، من بلفاست في إيرلندا الشمالية، معروفة بنشاطها الحركي دفاعاً عن قضايا إنسانية، في مشاركتها أخيراً في مهرجان كوتشيلا في كاليفورنيا، ردّدت هتافات "الحرية لفلسطين" رغم التضييق الجاري على الحراك من أجل فلسطين في الولايات المتحدة. والفرقة الإيرلندية لا ترى الحراك من أجل فلسطين أو غيرها من القضايا خارج هُويَّتها، إذ تعتبر أن استخدام غناء الراب باللغة الغيلية الإيرلندية فعل مقاومة للإلغاء من قوى الاستعمار. ولعلّ ردّات الفعل المبالغ فيها هي المثال الأكثر واقعيةً للمعايير المزدوجة في غياب استنكار "اصطياد" المدنيين الجائعين في غزّة والتركيز على مجرّد شعار في احتفال. الخبر ليس الهتاف، بل الإبادة، ردّد بعض المعلّقين في حلقات النقاش التلفزيونية وتغريدات السوشيل ميديا.
تصوّيت أعضاء البرلمان البريطاني على حظر حملة "فلسطين أكشن"، الناشطة ضدّ الدعم العسكري لإسرائيل، مصنّفاً إيّاها منظّمةً إرهابية، أسوة بمنظَّمتَين من النازية الجديدة، سابقة أكثر خطورةً من كلّ تعابير القمع التي شهدتها البلاد في المعركة بين الأصوات المناهضة للإبادة، وتلك التي تتهمها بمعاداة السامية. وقد خسرت الحملة معركتها أمام القضاء لتأخير تنفيذ القرار، وباتت مدرجةً على قائمة الجماعات الإرهابية المحظورة، ما يجعل العضوية فيها أو دعمها جريمةً جنائيةً يُعاقَب عليها بالسجن مدّة تصل إلى 14 عاماً.
يعتبر التصنيف ضربةً جديدةً للنشاط الحراكي الحقوقي في البلاد، الذي غالباً ما استخدم أشكالاً من التخريب للممتلكات العامّة أو الخاصّة للتعبير عن النقد، والتي لا تُلاحق بموجب قانون مكافحة الارهاب. تعرّف الحملة "فلسطين أكشن" نفسها في موقعها على الإنترنت بأنها تستهدف أساساً شركات تصنيع الأسلحة، في مقدمها شركة إلبيت سيستمز (Elbit Systems)، أكبر مُصنّع للأسلحة في إسرائيل، فضلاً عن شركات أسلحة مثل ليوناردو وتاليس وتيليدين ((Leonardo, Thales and Teledyne، والشركات والمؤسّسات المرتبطة بها. ولعلّ الحملة في تركيزها على شركات تصنيع الأسلحة تستهدف جوهر الكارثة، إذ اعتبر تقرير لمقرّرة الأمم المتحدة لشؤون الأراضي الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا ألبانيز، صدر أخيراً تحت عنوان "من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة الجماعية"، أن الإبادة مستمرّة، لأنها مربحة لمجموعة من الشركات العالمية، في ما وصفه التقرير بـ"الآلية المؤسّسية التي تدعم المشروع الاستيطاني الاستعماري الإسرائيلي".
في قمعها الحراك من أجل فلسطين، تستعير الحكومة البريطانية آليات الإسكات الأكثر فاعلية في قاموس الديكتاتورية
في قمعها الحراك الناشط من أجل فلسطين، تستعير الحكومة البريطانية آليات الإسكات الأكثر فاعلية في قاموس الديكتاتورية في منطقتنا: الملاحقة الجنائية بموجب قانون مكافحة الإرهاب. اعتبرت مديرة مكتب هيومن رايتس ووتش في بريطانيا، ياسمين أحمد، أن استخدام تشريعات مكافحة الإرهاب لحظر الحملة من أجل فلسطين "إساءة خطيرة لاستخدام سلطة الدولة، وتصعيد مرعب في حملة هذه الحكومة لتقييد الحقّ بالاحتجاج"، كما أن تصنيف الحملة في فئة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أو تنظيم القاعدة "سابقة خطيرة للغاية". وقد سبق أن استُخدمت هذه التشريعات في ملاحقة أفراد بما في ذلك صحافيون وأكاديميون وناشطون (ولا تزال) عبّروا عن مواقف وصفت بأنها مؤيّدة لمجموعات محظورة، سواء في تصريحات لهم في المجال العام أو في تعبيرات عبر وسائل السوشيال ميديا. وتلك أكثر من سابقة خطيرة في بلاد عرفت بحراك نسوي بارز (سافراغيت) استخدم تخريب الممتلكات الخاصّة والعامّة وسيلةً للعصيان المدني في المطالبة بحقّ النساء في التصويت والمشاركة في الحياة السياسية، وهو حراك تحتفل به الطبقة السياسية باعتبارها حدثاً تقدّمياً بارزاً.
بات التعبير الحراكي من ضروب المغامرة في بلاد تقول إنها ليبرالية، إلّا في ما يتعلّق بالحراك الداعم لفلسطين ضدّ نظام الفصل العنصري الإسرائيلي. حمل أحد المتظاهرين دعماً لحملة "فلسطين أكشن" لافتةً تحمل شعار "يا للهول، لقد دلقت الدهان" الأحمر. دماء المدنيين السائلة في غزّة لم تُثِر أيّ "هول" مماثل.

Related News
