
تحوّلت قضية الطفلة الليبية سوهان إلى حدثٍ اهتزّ له الرأي العام، بعدما انتشرت صورها عبر مواقع التواصل الاجتماعي وهي تفترش الأرض على متن قارب هجرة سرية رفقة ذويها، بحثاً عن علاج لمرضٍ نادر في إنزيمات البنكرياس ينهش جسدها الصغير. وجهها الشاحب لا يحمل سوى تساؤلات وحالة من الصمت المحزن، أما حقيبتها فلم تكن هذه المرة حقيبة مدرسيّة أو تلك التي تُعدّ لغرض رحلةٍ ترفيهية، إنما أُعدّت هرباً من اليأس على أمل العبور في عرض البحر نحو الحياة.
أثارت الواقعة غضباً عارماً في الشارع الليبي، وفتحت الباب على مصراعيه أمام تداعيات انهيار المنظومة الصحية تحت وطأة الفساد والصراعات.
ونشرت والدة الطفلة رسالة مؤلمة تقول فيها: "لم نغادر لأننا نريد الهجرة، بل لأن المرض لا ينتظر"، وأرفقتها بصورٍ توثق لحظات الوداع الأخيرة لمنزلهم في مدينة زوارة، أقصى غرب ليبيا، وتوجّههم لركوب قارب هجرةٍ غير نظامية نحو إيطاليا، يتأرجحون بين أحلام العلاج المرتقب ومخاطر الغرق والموت.
وأفاد كمال العطوشي، وهو أحد أقارب سوهان، بأن الحكومة أبلغت عائلة الطفلة عبر أحد المسؤولين بأنها ستتولّى تقديم الدعم في أقرب وقت ممكن، مؤكداً لـ"العربي الجديد"، أن "الأسرة لم يصلها أي شيء رغم التعهدات والوعود الحكومية"، وحمّل المسؤولية لجميع المعنيين، كاشفاً أن حالة الطفلة تزداد سوءاً، وأن عائلتها لم تلجأ إلى مواجهة مخاطر الموت في البحر إلا بعدما أوصدت بوجهها كل أبواب الداخل، وبعدما استنزفت كل مدّخراتها في المستشفيات داخل ليبيا وفي دول الجوار، وقال: "المفارقة أن والدة سوهان موظفة في جهاز دعم وتطوير الخدمات العلاجية، وهو الجهاز المسؤول عن تطوير العلاج في الداخل والمسؤول عن تسفير الحالات المرضية النادرة والمستعصية إلى الخارج، ورغم ذلك لم تحظَ بفرصة علاج ابنتها على نفقة الدولة".
استدعت قصة سوهان التي تعاني من مرض التليّف الكيسي، تحرّك حكومة الوحدة الوطنية بعدما غادرت الطفلة البلاد، إذ أوعز رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة بتكفّل الحكومة بمصاريف علاجها في إيطاليا، ما كشف حجم المعاناة والأزمة الصحية في ليبيا، حيث بات خيار المرضى اللجوء إلى قوارب هجرة عبر البحر كي تلتفت الحكومة لأمرهم، حيث نجد مئات القصص المأساوية المشابهة لحادثة سوهان، والتي لا تجد صدى.
وفي خطٍ مواز، تقدّم أهالي مرضى التليّف الكيسي بشكوى إلى مكتب النائب العام، تُحمّل المسؤولين قضية "الإهمال المتعمد" الذي يفتك بالأطفال. تقول أم رؤية حمودة، وهي والدة طفلة مصابة بالتليّف الكيسي، إن الذبول يلازم جسد ابنتها الصغيرة، من دون أن تجد أي صدى لدى الحكومة في طرابلس إزاء نداءاتها المتكررة وشكواها من اختفاء الأدوية الأساسية لطفلتها، في الوقت الذي تكاد فيه المستشفيات ترفع لافتة "لا علاج".
وتضيف لـ"العربي الجديد": "هناك الكثير من الأطفال يعانون المرض ذاته، وقد تعرفت إليهم وإلى عائلاتهم نتيجة زياراتي المتكرّرة لوزارة الصحة في العاصمة طرابلس، حيث كان الجواب الدائم بأن الوزارة تنتظر الميزانية المخصصة لشراء أدوية التليّف الكيسي".
ورغم أن أهالي مرضى التليّف الكيسي لم يظهروا في وسائل الإعلام إلا أخيراً، غير أن الرأي العام الليبي بات يتابع حدثاً آخر يتعلق بمعاناة مرضى ضمور العضلات الذين تكرّر ظهورهم الإعلامي ووقفاتهم الاحتجاجية.
وكشف رئيس رابطة مرضى ضمور العضلات، محمد أبو غميقة، أنه منذ عام 2022، توفي 11 طفلاً من أصل 57 حالة مؤهلة للحقن الجيني المنقذ، فيما لا يزال الأطفال الباقون ينتظرون دورهم في رحلات علاجية بطيئة إلى مصر والإمارات. موضحاً أن "العائدين من العلاج في الخارج يواجهون إهمالاً في الرعاية اللاحقة والعلاج الطبيعي، وهو واقع ينسحب على مئات المرضى".
يؤكد فوزي الجطلاوي أنه أنفق من ماله الخاص لتأمين العلاج لابنه في مصر، لكن بعد عودته للبلاد وجد المستشفيات خاوية من أبسط الإمكانيات. ويتابع: "أحرص على إخفاء أخبار مرضى ضمور العضلات عن ابني، حرصاً على وضعه النفسي إذا سمع بوفاة أحدهم".
وعادة ما تأتي الاستجابة الحكومية لنداءات أهالي ذوي الأمراض المزمنة متأخرة أو مؤقتة. ورغم أن الدبيبة أبدى تحركاً سريعاً لعلاج الطفلة سوهان بعد الضجة الإعلامية، وأعلن تشكيل لجنة للتحقيق بتقصير الجهات الصحية، إلا أن الجطلاوي يؤكد لـ"العربي الجديد" أنه "تجاوب مؤقت"، وتحركات المسؤولين ليست سوى ردود فعل لامتصاص غضب الشارع، بينما "العلاج حق مكفول لكل مواطن، ولا يجب أن يكون منّة. نقرأ كل شهر نشرات الميزانيات الحكومية التي تُظهر المليارات التي تُصرف لوزارة الصحة، لكن أطفالنا يموتون بسبب نقص الدواء والأطباء". وكانت شريحة واسعة من الليبيين قد تابعت قضية الطفلة سوهان، حيث كتب أحدهم بلهجة ساخطة: "إن أهم مسوّغ وإجراء مطلوب لتهتم بك السلطات وتتكفّل بعلاجك، أن تمتلك ثمن قاربٍ يمخر بك عُباب البحر، وعليك أن تلتقط الصور وتنشرها قبل أن تغادر وتنقطع إشارة الإرسال".

Related News
