
أضحت الصناعات الغذائية المنزلية التقليدية عماداً أساسياً للكثير من الأسر في محافظة السويداء والمناطق الجنوبية من سورية، في ظل استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية وتعثر القطاعات الإنتاجية الرسمية. فقد اتجهت أعداد متزايدة من النساء والعائلات إلى تحويل الممارسات التراثية في إعداد الأغذية إلى مشاريع مدرة للدخل، مستغلة الموارد الزراعية والحيوانية المحلية بأدوات إنتاج تقليدية أعيد إحياؤها بعد سنوات من الإهمال.
تستخدم لمياء العلي، من سكان السويداء (جنوب غرب سورية) أداة "الجَفّ" الموروثة عن والدتها لإنتاج اللبن ومشتقاته اليومية. وتنتج هذه الأداة البسيطة مجموعة من المنتجات تشمل الزبدة والسمن العربي واللبنة ولبن العيران ولبن الجميد (المعروف محلياً باسم الكثى). ويُلاحظ المستهلكون في أسواق المنطقة فروقاً واضحة في الجودة والطعم بين هذه المنتجات التقليدية ونظيراتها المصنعة آلياً، وهو ما عزز الطلب عليها بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة.
دفعت الظروف المعيشية الصعبة عشرات النساء في الجنوب السوري إلى امتهان أعمال منزلية تحقق دخلاً يغطي الحد الأدنى من الاحتياجات المعيشية، وتسدّ جزءاً من متطلبات الأسرة إلى جانب دخول أخرى. وفي غياب شبه كامل للبنية التحتية الصناعية والتجهيزات اللازمة لتشغيل الورش الصغيرة، اتجهت النساء إلى إنتاج الصناعات الغذائية بالاعتماد على الخامات الزراعية والحيوانية المتوفرة محلياً، مستخدمات تجهيزات بدائية تعمل ضمن إمكانيات محدودة ووفقاً لفرص العرض والطلب.
ومن بين هؤلاء النساء، شرعت وفاء الشامي من ريف مدينة صلخد جنوب السويداء في صناعة المخللات والمجففات والمربى معتمدة على الإنتاج الزراعي الموسمي للمدينة والقرى المحيطة. واستخدمت في عملها براميل بلاستيكية محكمة الإغلاق لصناعة المخللات، بالإضافة إلى أوعية وعبوات متنوعة الأحجام لحفظ المربى. وتشير الشامي في حديثها لـ"العربي الجديد" إلى أن عدّة العمل الأساسية التي شكلت مصدر إلهام لمشروعها كانت الأواني النحاسية القديمة الموروثة عن العائلة، وغرفة "التنور" الحجرية التي استخدمتها والدتها وجدتها سابقاً لصناعة الخبز العربي.
إحياء الأدوات التراثية
أسهمت الأزمة المعيشية التي عاشها السوريون خلال السنوات الماضية في إعادة إحياء أدوات العمل التراثية التي كانت منسية، كما أعادت تداول مصطلحات اختفت من الاستخدام اليومي. وتوضح الشامي لـ"العربي الجديد": "قلة من الجيل الجديد يعرفون معاني "الدست" و"الخلقينة" و"البيطس" و"السدر" وهي قدور نحاسية كانت تُستخدم لطهي كميات كبيرة من الحبوب كالقمح والبرغل، ولتجهيز الفواكه كالعنب والتين والمشمش وحفظها أو تجفيفها. وقد ساهمت هذه الأدوات المتوفرة في غرفة التنور، إلى جانب الحطب الذي يتم جمعه محلياً، في تأمين مصادر دخل أنقذت أسراً من العوز خلال سنوات الأزمة.
وعن تطور مشروعها تضيف الشامي: "بدأت بصناعة وبيع خبز التنور، ثم توسعت إلى صناعة المجففات كالتين والزبيب. ومع ازدياد المنافسة في هذه المنتجات، اتجهت إلى صناعة المربيات بأنواعها المختلفة والمخللات، مما أتاح لي العمل على مدار مواسم زراعية متعددة".
استفادت النساء خلال السنوات الماضية من تراجع القيود الحكومية والاجتماعية على المنتجات الغذائية المنزلية، خاصة في مجال الرقابة التموينية والملاحقات القضائية للمنتجات غير الحاصلة على تراخيص نظامية. وقد انعكس ذلك على ازدهار هذا القطاع غير الرسمي، حيث اجتهدت النساء في تطوير صناعات غذائية منزلية تحمل طابعاً تراثياً مميزاً للمناطق التي ينتمين إليها.
وفي أسواق السويداء، خصص التجار مساحات لعرض هذه المنتجات المنزلية وبيعها. يقول محمد نصر، صاحب أحد المتاجر الكبيرة في مدينة السويداء لـ"العربي الجديد": "أصبحنا نعتمد بشكل كبير على المنتجات الغذائية المنزلية في تجارتنا، حيث تعددت أصنافها وتطورت تقنيات التعبئة والتغليف. وفي المقابل، توسعت شريحة الزبائن وازداد الطلب على هذه المنتجات، خاصة تلك التي تتطلب جهداً ووقتاً كبيرين في التحضير تعجز عنه الشابات والموظفات".
ويضيف نصر: "يفرد التجار زوايا خاصة وثلاجات لعرض الصناعات المحلية ذات الطابع الشعبي مثل المكدوس والمغربية والكبة والفريكة والمجففات والمربيات وغيرها. والأهم هو ثقة المستهلك بالمنتج التقليدي والتعاطف الشعبي معه، حيث نستخدم مصطلحات ترغيبية مثل "شغل بيت" أو "صناعة منزلية" لجذب الزبائن". كما يشير إلى أنواع الأطعمة التي يطلبها الزبائن مسبقاً مثل ورق العريش (ورق العنب) والبقدونس والكوسا.
ظهور المطابخ الشعبية وتحديات أمام الاستمرار
وشهد الجنوب السوري تحول العديد من المنازل إلى "مطابخ شعبية" متخصصة في إعداد الولائم للمناسبات والأعراس. وتُدار هذه المطابخ بشكل أساسي من قبل النساء، مع الاستعانة بشباب في عمليات النقل والتحميل والتوصيل إلى الزبائن. ويعد "مطبخ حمزة" في مدينة السويداء من أوائل المطابخ التي تديرها مجموعة من النساء، حيث تخصص في تقديم وجبات تقليدية محددة مثل الملاحي والكبّة والفريكة والمندي والأوزي بحسب الطلب.
وتوضح سلوى حمزة لـ"العربي الجديد" أن "هذه الخدمات لا ترتبط بموسم محدد، لكن الطلب يزداد خلال فصل الصيف مع كثرة مناسبات الزواج والأفراح. وقد وفر هذا النشاط دخلاً يسهم في تحقيق اكتفاء مالي للأسرة والعاملات في المطبخ، مع إمكانية توظيف أعداد إضافية من العاملات وفقاً لحجم الطلب والإنتاج".
يواجه قطاع الصناعات الغذائية المنزلية تحديات جمة، أبرزها صعوبات التخزين والنقل بسبب انقطاع التيار الكهربائي وارتفاع كلفة وقود المولدات. كما تفتقر معظم المنتجات إلى الشهادات الصحية المعتمدة، رغم التزام الصانعات بمعايير النظافة التقليدية الموروثة. ويحذر خبراء اقتصاديون من مخاطر تحول هذا النموذج إلى بديل دائم عن القطاعات المنظمة، ما قد يؤثر سلباً على جهود إعادة الإعمار المستقبلية.
على الصعيد الثقافي، سجل باحثو التراث إحياء غير مسبوق للممارسات الغذائية الشعبية، حيث عادت المصطلحات التقليدية إلى التداول اليومي بعد انحسارها. وبدأت جمعيات محلية بمبادرات لتوثيق الوصفات التراثية خوفاً من اندثارها. ويرى مراقبون أن دعم هذه المشاريع عبر برامج تدريبية في التعبئة والتسويق الحديث، وإصدار تراخيص صحية مبسطة، قد يحولها إلى صناعة صغيرة مستدامة، خاصة مع تزايد الطلب من الجاليات السورية في الخارج، الباحثة عن المذاقات التراثية التي أصبحت نادرة حتى داخل سورية.
تمثل الصناعات الغذائية المنزلية في جنوب سورية نموذجاً حياً لتكيف المجتمعات مع الظروف الاقتصادية الصعبة، حيث نجحت الأسر - وبقيادة نسائية واضحة - في تحويل التراث الغذائي إلى شريان حياة يوفر الحد الأدنى من الاستقرار المعيشي في ظل انهيار البنى الاقتصادية التقليدية.

Related News


