
تدلّ المؤشّرات في تونس على أن خطّة استهداف حركة النهضة قد انتقلت إلى مرحلتها الثالثة بطريقة سلسة وهادئة ومثيرة، فمع الأحكام التي صدرت في قضية "التآمر على أمن الدولة 2"، التي شملت راشد الغنوشي الذي حكم عليه بـ14 عاما، تُضاف إلى أحكام سابقة قارب مجموعها حوالي نصف قرن، بتهم عديدة وخطيرة منها "تكوين تنظيم إرهابي". وكاد الأمر يتجاوز ذلك حيث جرى الحديث عن نية التخلص من الرئيس سعيّد جسدياً. ورغم أن الجهات الرسمية أو القضائية لم يصدر عنها تصريح في هذا الشأن، جاء معلّق في قناة التاسعة على وجود وثيقةٍ ضمن ملف القضية، قيل إنه جرى العثور عليها في مكتب رئيس الحركة حركة النهضة "مكتوبة بخط يده"، تضمّنت، حسب هذا الادّعاء، إشارة إلى أن الحالة السياسية التي تمر بها البلاد "ستستمر ما دام الرئيس حيا"، وقد فهم من ذلك "أن الوثيقة تؤكد وتعكس نية الحركة وتخطيطها وتفكيرها في اغتيال رئيس الجمهورية"... هذا هو السياق الذي أراد أصحابه من خلاله دفع المواجهة بين السلطة والحركة نحو نهاية تراجيدية مثيرة للقلق، من شأنها أن تفتح المجال أمام العديد من الأسئلة المعلقة والملغمة.
تعود لحظة الحسم السياسي إلى مساء 25 جويلية (يوليو/ تموز 2021)، عندما انفرد الرئيس قيس سعيّد بقيادة البلاد. يومها، استعدّ النظام، بجميع أجهزته، تحسّباً لمواجهة مختلف السيناريوهات، بما ذلك احتمال تجييش الشارع، أو ربما اللجوء إلى العنف، كما اعتقدت أطرافٌ في السلطة. لم يحصل شيء من ذلك، واكتفت الحركة بوقفة رمزية لرئيسها أمام باب البرلمان المغلق، قبل أن يعود من حيث أتى. عندها تنفسّت أجهزة السلطة الصعداء، وأدركت أن الطريق أصبح مفتوحاً للشروع في تطويق هذا "المارد" ممثلا في حركة النهضة. ثم كانت الخطوة التالية مساء الاثنين 17 إبريل/ نيسان 2023، حيث صدرت الأوامر باقتحام منزل الغنوشي وتفتيشه، ثم إيقافه وإيداعه السجن والحكم عليه. عندها استعدّت الأجهزة نفسها لمواجهة ردود الحركة، لكن المحاكمة مرّت بسلام، خصوصاً أن الاعتقالات شملت أهم الكوادر النهضوية، إلى جانب قيادات المعارضة.
واليوم، تأتي الخطوة الثالثة التي تهدف إلى شل الحركة كلياً من خلال اتهامها بـ"تشكيل تنظيم سرّي إرهابي"، وإيقاف بقية كوادرها، في انتظار اللحظة المناسبة لحلها، ومصادرة ممتلكاتها، ودفنها سياسياً مع كل الذين تعاملوا معها. ولا مؤشّرات تدل على أن ردود الفعل ستكون مختلفة عن سابقاتها.
هل يعني ذلك كله أن الحركة تحتضر، وأنها مهدّدة بالموت السريري؟... يضعف القمع الحركات السياسية بما في ذلك التنظيمات العقائدية، لكن التجارب أثبتت أن هذه الحركات تتمتع بقدرة كبيرة على الصمود مهما بلغ ضعفها وهوانها. لا شك في أن "النهضة" خرجت من هذه المعركة منهكة وضعيفة، وأنها اختارت المواجهة من دون أن تكون لها خطة سياسية مدروسة، ومن دون أن تدرك أنها استنزفت أرصدتها بعد سوء إدارتها مرحلة السلطة، ودقّت إسفيناً بينها وبين جزء مهم من التونسيين والتونسيات، لكن ذلك لا يكفي للاعتقاد بأنها مهدّدة بالانقراض.
تعتقد السلطة أنها قوية وقادرة على التدمير وحسم الملفات الخطيرة، لكنها، في هذه المرّة، جازفت بتوسيع دائرة خصومها بشكل لافت، فالصراع اليوم ليس محصوراً بين النظام وحركة النهضة، كما كان الأمر في المراحل السابقة، وإنما اتسعت الرقعة لتشمل معظم الطيفين، السياسي والمدني. ولم يقف الأمر عند معركة تدار مع "تنظيم إرهابي"، وفق الخطاب الرسمي، بل تحوّلت إلى قضية حرّيات بالمفهوم الواسع، وهو ما جعل مراقبين عديدين يشكّكون في بعض المعطيات، ومنها حيثيات القضايا المرفوعة، ومدى سلامتها أو صحتها وفق ما يفرضه مبدأ "المحاكمة العادلة". ومن شأن هذا الأمر أن يجعل الإسلاميين يعتبرون أنفسهم ضحايا، وليس هذا قولهم فقط، وتؤيدهم في ذلك أطراف سياسية وحقوقية عديدة على الصعيدين، المحلي والدولي.

Related News

