ما بعد الحرب الإسرائيلية الإيرانية
Arab
15 hours ago
share

وضعت الحرب الإسرائيليّة الإيرانيّة أوزارها، أو حرب الـ12 يوماً كما أطلق عليها الرئيس دونالد ترامب، بإعلان وقف إطلاق النّار بصورة مباغتة. وبمجرّد إعلانه زعم كلّ من طرفيها تحقيق الانتصار على الآخر. وفور صمت الصواريخ، شرعت مراكز الدراسات في تقييم مشاهد الحرب ونتائجها وتداعياتها على مختلِف الأطراف، في محاولة لاستكناه المشهد المستقبلي على المحوريْن الإقليمي والدولي.

الملمح الأوّل أن أيّ طرفٍ لم يستطع توجيه الضربة القاضية إلى خصمه، فقد تمكّنت إسرائيل من تدمير جانب كبير من قدرات إيران النوويّة والصاروخيّة، بعدما ألحقت آلتها الحربيّة أضراراً كبيرة بالمنشآت النوويّة في نطنز وفوردو وأصفهان. وواضح أن الضربة الإسرائيليّة لم تكن بالقوّة اللازمة لتدمير تلك المنشآت، ما استدعى تدخّل الأميركان بصورة مباشرة، باستخدام قنابل شديدة التطوّر خارقة للتحصينات تحت الأرض لنسف بنية المنشآت من أساسها، كما تمكنّت إسرائيل من تصفية نحو 17 من خبراء الطاقة النوويّة ونحو 20 قيادة عسكريّة رفيعة من قيادات الصفّ الأوّل في الجيش والحرس الثوري، بمن فيهم قائد الحرس الثوري حسين سلّامي، ورئيس هيئة الأركان محمد باقري، وأغلبهم جرت تصفيتهم في منازلهم عبر استخدام طائرات مُسيَّرة انطلقت من داخل الأراضي الإيرانيّة، في واحدة من كبرى عمليّات الاختراق الأمني التي شهدها التاريخ الحديث، بيْد أن هذا كله لم يتمكّن من الإجهاز على البرنامج النووي الإيراني بصورة كاملة، أو تحطيم القدرات الصاروخيّة الإيرانيّة، فضلاً عن إسقاط النظام في طهران كما راج في تصريحات مسؤولين إسرائيليّين في أثناء الحرب.

في المقابل، تمكّنت إيران من الصمود في مواجهة العدوان الإسرائيلي، واستيعاب المفاجأة في الضربة الإسرائيليّة، وتحطيم نظرية الردع الإسرائيلي، وأمطرت المدن الإسرائيليّة من شمال البلاد إلى جنوبها، بوابل من الصواريخ في مشهد نادر الحدوث في تاريخ إسرائيل، رغم أنف "القبّة الحديديّة" التي لم تفلح في وقف انهمار الصواريخ الإيرانيّة داخل العمق الإسرائيلي، ما دفع آلاف الإسرائيليّين إلى البقاء في الملاجئ ساعات طويلة مع دويّ صفارات الإنذار بصورة شبه مستمرّة، مع حالة شللٍ أصابت سير الحياة في مدن إسرائيل، بيْد أن الردّ الصاروخي الإيراني لم يرقَ إلى درجة تحقيق انتصار استراتيجي حاسم.

ستكون المفاوضات في حال استئنافها على أرضيّة مختلفة تماماً عن المفاوضات السابقة، بشروط تختلف كليّاً عنها

من المتوقَّع أن تنكفئ إيران على نفسها في الفترة المُقبلة، لمحاولة تدارك خسائرها ولملمة أوراقها المُبعثَرة، بعدما تضعضع حلمها في بناء مشروعها الإمبراطوري الذي أنفقت عليه أموالاً طائلة خلال العقديْن الماضييْن، وبعد فقدان أذرعها المنتشرة في دول العالم العربي واحداً بعد الآخر، فقد وضعت المواجهة الأخيرة كلمة النهاية لـ"الكومنترن الإيراني" الذي قام على أسس مذهبيّة، والذي عملت إيران على تدشينه منذ أكثر من عقديْن، بالتزامن مع الغزو الأميركي للعراق الذي جرى بدعم إيران ومعاونتها قبل الغزو وفي أثنائه وبعده، فقد تمدّد النفوذ الإيراني في عدّة دول عربيّة، بصورة ناعمة هادئة عبر الهيمنة، بنسج تحالفات مع ركائز نخبويّة وكيانات سياسيّة كانت علاقتها بإيران علاقة تابع بمتبوع، أو بصورة خشنة فجّة عبر الوجود العسكري الصريح لوحدات الحرس الثوري، أو بمليشيات طائفيّة تابعة لإيران، بيْد أن التكلفة فاقت بكثير العائد واتسع الخرق على الراتق، وهو ما يستتبع مواجهة النظام الإيراني أسئلة وجوديّة كبرى في الداخل الإيراني، عن أسس أيديولوجيّة صلبة قام عليها نظام "الجمهوريّة الإسلاميّة" منذ نشأته عام 1979، واستمدّ منها شرعيّته طوال العقود الماضية، مثل المواجهة مع "الشيطان الأكبر"، وضرورة التصدّي لقوى الاستكبار الدوليّة، والإنفاق ببذخ على برامج التسلّح العسكري، ودعم الأذرع الإيرانيّة في الدول العربيّة على حساب المشروعات التنمويّة.

منذ وقف إطلاق النار، والحديث يدور عن العودة إلى المسار الدبلوماسي، باستئناف المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني، لكن اللافت أن هذا يأتي مصحوباً بتراشق لفظي متعدّد الأطراف، يتمثل الجزء الأكبر منه في التراشق المُتبادَل بين المسؤولين الإيرانيّين ومسؤولي الوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة، فبعد إمطارها بسيلٍ من الاتهامات بتوفير المبرّرات للعدوان الإسرائيلي عليها بسلوكها "الهدّام"، بحسب تعبير الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، أعلنت إيران رسميّاً تعليق التعاون مع وكالة الطاقة الذريّة، بموجب قانون أقرّه البرلمان الإيراني في خطوة تصعيديّة تفاقم التوتر بين إيران والوكالة من جهة وإيران والدول الغربيّة من جهة أخرى، حيث توالت التصريحات الغربيّة المستنكرة للخطوة الإيرانيّة، وامتدّت إلى روسيا التي تحتفظ بمسافة كبيرة من دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فقد حذّرت إيران من مغبّة تقليص التعاون مع وكالة الطاقة الذريّة.

عوامل المواجهة العسكريّة بين إيران وإسرائيل قائمة بصورة كاملة، وفي مقدمتها البرنامج النووي الإيراني

ستكون المفاوضات في حال استئنافها على أرضيّة مختلفة تماماً عن المفاوضات السابقة، بشروط تختلف كليّاً عنها، فلن تكون استكمالاً لما جرى في الجولات السابقة، مع التطورات التي تمخّضت عن المعركة أخيراً، والتغيّر في موازين القوى، فمن المُتوقَّع أن ينخفض السقف التفاوضي الإيراني كثيراً، في مقابل ارتفاع السقف التفاوضي للأطراف الأخرى، كما أنها ستكون مفاوضات مُتعسّرة مع غياب الثقة المُتبادَلة والعناد الإيراني الذي سيزداد كثيراً بعد المواجهة من أجل حفظ ماء الوجه أمام الداخل الإيراني باعتبار البرنامج النووي ركيزة أساسيّة للأمن القومي الإيراني، فضلاً عن التحريض الإسرائيلي العلني الذي لا يتوقّف بالحديث المستمرّ عن خطورة البرنامج النووي الإيراني.

في كلّ الأحوال، تظلّ عوامل المواجهة العسكريّة بين إيران وإسرائيل قائمة بصورة كاملة، وفي مقدمتها البرنامج النووي الإيراني، الذي يمثّل محور الصراع، ما يشير إلى أن هذه المواجهة التي انتهت باتفاق هشّ للهُدنة، غير واضح المعالم وغير معلوم البنود، جولة ستتلوها جولات لاحقة، قد تكون أكثر شراسة وأشدّ عنفاً، في صراعٍ مُستعرٍ مُحتدمٍ من شأنه تحديد مصير المنطقة لعقود مقبلة، قام في الأساس من أجل مدّ مظلّة النفوذ، والهيمنة على مقدّرات المنطقة لتحديد اللاعب الإقليمي الأقوى، مع غياب كامل، وعجز شديد عن التأثير في مجريات هذا الصراع أو محاولة تحجيم آثاره، من أصحاب المنطقة الأصليّين، الذين يغطّون في سُباتٍ عميقٍ، أو اكتفوا بالجلوس على مقاعد المُتفرّجين، أو بإطلاق هتافات المُشجّعين في أحسن الأحوال.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows