
يبدو أنّ إسرائيل ليست على عجلةٍ من أمرها لتوقيع معاهدة سلام مع سورية، بل تفضّل التركيز على تفاهمات تعاون وتنسيق أمني ضدّ من تعتبرهم "الأعداء المشتركين" للطرفَين، ما يؤسّس لتطبيع تدريجي تحت عناوين مختلفة، تتوّج بدخول دمشق في الاتفاقيات الإبراهيمية الأميركية، فإسرائيل لا يهمّها حالياً إعلان تطبيع رسمي، فالتغييرات التي تسعى إليها في دور الجيش والأمن السوريَين يفرض أمراً واقعاً على الرئيس السوري أحمد الشرع، ما يجعل من المعاهدة تحصيلَ حاصل، أيْ مسألة وقت لا أكثر. فبخلاف الإدارة الأميركية، التي تطمح لإدخال سورية وثم لبنان في الاتفاقيات الإبراهيمية في عهد الرئيس دونالد ترامب، تريد إسرائيل أن تجعل احتلال هضبة الجولان أمراً مقضياً. ولا يعني ذلك أن تقرير مصيرها سيكون مؤجّلاً، فقد حُسم مصير الجولان بالنسبة لإسرائيل، منذ احتلالها لها في 1967، خصوصاً أنّ واشنطن اعترفت بضمّ إسرائيل للجولان عام 2019، خلال ولاية الرئيس ترامب الأولى.
رهان إسرائيل على اتفاقيات أمنية وحدودية، نتيجة للمفاوضات التي تجري على نحوٍ غير مباشر بين طرفين، قد لا يتحقّق كما تريد. لكنّها تنظر إلى سورية دولةً هشّةً تحتاج إعادة بناء اقتصادها وهذه فرصة لتطويعها، وتريد (إسرائيل) القفز على الخلاف بشأن مستقبل هضبة الجولان التي لا تستطيع دمشق أن تتخلى عنها، فيما إسرائيل ترفض الانسحاب منها، ولا تريد أي عقبةٍ في طريق تطبيع تدريجي وصولاً إلى معاهدة، نتيجة لما تحققه من خلال اتفاقيتها الأمنية، فليس في قاموس إسرائيل تفاهمات بدون فرض شروط أمنية لضمان "أمنها" وفقاً لمفهومها لما يتطلّبه أمنها القومي.
لإسرائيل قاموسها الخاصّ بما تعنيه بضمانات أمنية و"حماية أمنها". وهنا تستطيع دمشق الاستفادة من تجربة الفلسطينيين القاسية والمريرة، فمصادرة الأراضي وتدمير البيوت وبناء المستوطنات كلّها تندرج تحت بند "الأسباب الأمنية"، وما تفعله إسرائيل في جنوب لبنان من استباحة القرى والمناطق، وجعلها مناطق عازلة تحت سيطرتها، مثالٌ آخر لمفهومها الخاص بـ"الضمانات الأمنية". وهذا ما ستفعله مع سورية بأشكال مختلفة تحت ذرائع شتى، فالهدف من سورية ليس التعاون الأمني لضمن أمن الحدود فحسب، بل تغيير مهمة الجيش والأمن السوريين من حماية أمن السوريين إلى ضمان أمن إسرائيل. بل تريد إسرائيل أن تكون الاتفاقية الأمنية مع دمشق أساساً لتعاون أمني مع سورية والأردن، لمنع محاولة أي فصيل مقاوم من أن يتخذ تجمعاً له في مدينة درعا بالقرب من الحدود الأردنية. ففي ندوة عقدها معهد واشنطن للشرق الأدنى، وهو معقل للصهيونية في واشنطن، في العاشر من الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، كشف الصحافي الإسرائيلي إيهود إيعاري (المطلّ على المفاوضات إسرائيلية السورية) أن تل أبيب تريد إجراءات مشتركة لمنع حزب الله من الانتقال إلى درعا، ومحاولة تنفيذ عمليات وقصف ضدّ إسرائيل، لكنّه لم يوضح ما إذا كان ذلك يتضمّن وجوداً عسكرياً وأمنياً لإسرائيل في المدينة. أي أنّ كل التفاهمات تأتي تحت بند "التعاون ضدّ الأعداء المشتركين"، أي توريط سورية والأردن في دور أمني مشترك في درعا لحماية إسرائيل، الذي يعني ضمناً أن تصبح إسرائيل الحليف والصديق، وهي تحتل هضبة الجولان وتوغّلت في القنيطرة، ودمّرت إمكانات الجيش السوري ومعدّاته، وتشنّ غارات على أهداف سورية متى شاءت، وتعرقل حياة المواطنين في المناطق التي توغلت فيها، فكيف يصح ذلك؟
تريد إسرائيل أن تجعل احتلال هضبة الجولان أمراً مقضياً
حتّى لو اعتقدت القيادة السورية الحالية أنّ التزامها بالحق الفلسطيني جزءٌ من إيمانها وتفكيرها، كما يقول مقرّبون منها، فالعبرة بالأفعال وليس بالنيّات، وقبل كل شيء، فإسرائيل التوسعية، وموقفها من هضبة الجولان أكبر دليل... فكيف يمكن الحديث أو التوافق على مفهوم "الأعداء المشتركين" مع كيان قام على اقتلاع الفلسطينيين ويستمرّ في توسّعه بدون المساس بالأمن القومي السوري؟، فأسباب العداء بين سورية من جهة وإيران وحزب الله من جهة، مختلفة تماماً، وهذا مهم، فإسرائيل تريد إضعاف إيران لأسباب تتعلق بالتنافس على النفوذ الإقليمي ولدعمها حزب الله وحركتَي حماس والجهاد الإسلامي لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وسورية لا تقع في القطب الشمالي، بل هي في مرمى طموحات إسرائيل التوسّعية، التي تعلن بكل وقاحة أن هضبة الجولان ستبقى تحت سيادتها، فعلى أي أساس يجري أيّ اتفاق على تعاون أمني ضدّ "الأعداء المشتركين"؟ هل يعني أن إسرائيل ستحمي سورية من إيران وحزب الله؟
لا يخدم التمسّك بقصة الأعداء المشتركين إلّا إسرائيل؛ فالعدو التوسّعي لن يصبح صديقاً مهما وقّع من اتفاقيات أو هُدن "أو سلام" وما شابه، فالأردن لم تضمن أمنها، وإسرائيل ماضية في تدمير مخيّمات الضفة الغربية وإجلاء السكان من قراهم فيها، وتهدّد بتهجير الفلسطينيين إليها، ومصر تبقى في دائرة مخططات إسرائيل لتهجير أهل غزّة إلى سيناء. وقد تحدث إيعاري في تلك الندوة عن سعي إسرائيل إلى تصدير الغاز (المسروق من الفلسطينيين) إلى سورية من خلال مدّ خط الغاز الذي يمر في الأردن إلى سورية، بديلاً للغاز القطري، ولم يهتم بذكر أن إسرائيل قطعت ضخّ الغاز إلى الأردن، واضطرت عمّان إلى استبداله بالغاز المصري، بدون احترام لمعاهدة السلام واتفاقية الغاز الموقعة في 2016 وبدأ العمل بها في 2020. أي أن تل أبيب أطلقت العنان لأحلامها بتثبيت نفوذها ومدّه، وبخاصة بعد عدوانها على إيران واستمرار دعم أميركا لها ولتوسّعها وحروبها، وفي هذه الصورة تناقض مفهوم "الأعداء المشتركين"، الذي يُطرب الإسرائيليين، والذي نسبَ رجل أعمال أميركي إلى الرئيس أحمد الشرع إتيانه عليه، في اجتماعهما نهايات مايو/ أيار الماضي.
القبول بالاحتلال إن في فلسطين أو لبنان أو سورية هو الخضوع للفكرة والممارسة التوسّعية للمشروع الصهيوني
لا يعني ما تقدّم أن ما تريده إسرائيل يتحقق، ولا نعرف ما يكفي عن المفاوضات السورية - الإسرائيلية لنحكم، لكن ما ينشره الإعلام الإسرائيلي، وإن كان لا يمكن أن نعرف مدى صحته، يثير القلق، فمِن أخطر ما تريد إسرائيل فرضه أن تقبل سورية بتحرك الجيش الإسرائيلي داخل أراضيها، إذا كان هناك "تهديد لأمنها"، أي التخلّي عن سيادة الدولة السورية داخل أراضيها وتعريض حياة أهالي المناطق الحدودية للخطر، فالجيش الإسرائيلي حين يتحرّك يأخذ حريته في إطلاق النار والقتل والتنكيل، على كل من يرى أنه "إرهابي"، تماماً كما يفعل في فلسطين.
طبيعيٌّ أن نخشى على سورية، وطبيعي أن نجتهد ونحاول التحذير، بغضّ النظر عن أيّ رأي بالرئيس الشرع، فسورية وأمن شعبها أولويتان، في مثل هذه القرارات، والتفريط بالالتزام بالقضية الفلسطينية ليس جزءاً من الحفاظ على أمن سورية، فالقبول بالاحتلال إن في فلسطين أو لبنان أو سورية هو الخضوع للفكرة والممارسة التوسّعية للمشروع الصهيوني، وتبدأ في حال سورية بفكرة التعاون "ضدّ الأعداء المشتركين"، لشلّ الإرادة عن مواجهة الخطر الإسرائيلي، ولو في أروقة الأمم المتحدة حدّاً أدنى.

Related News

