متغيّرات الفكر والمرحلة في الدول المغاربية
Arab
15 hours ago
share

لعلّ من أكبر التحولات الفكرية التي أصابت، بدرجاتٍ متفاوتة، مختلف البلدان المغاربية من حيث الآثار السلبية التي تولدت، في عمومها، عن سيادة نظم غير ديمقراطية وذات طبيعة استبدادية، أن مشاريعها التعليمية، تلك التي كانت ذات نزوع تحرّري في أكثر جوانبها ارتباطاً بالمصالح الشعبية التوّاقة إلى التقدّم والازدهار، توقّفت عن التطوّر، بعد أن دشّنت بها عهودها الاستقلالية، وبصورة خاصة بعد فترة تكوينٍ وبناء على ضوء التصورات الوطنية التي تحكّمت في النضال العام المناهض لأشكال الحماية والاستعمار في بلدانها. وأغرب ما في التحوّلات أنها تبدو اليوم وكأنها من طبيعة الأسباب نفسها التي اعتمدتها السلطات الاستعمارية للإبقاء على سيطرتها الشاملة على مقدّرات الأوطان والشعوب المغاربية، أي بناء على الاختيارات الاقتصادية الاجتماعية والسياسية المبنية أساساً على الاستغلال والهيمنة والقمع... إلخ، فلا تكون النتائج المرجوّة إلا الربح المادي والتجهيل والاستلاب عامة.

ولا يشار إلى المشاريع التعليمية، التي واكبت المراحل الأولى من التطوّر العام في العهود الاستقلالية، إلّا لأن التطوّرات، التي شهدتها مختلف البلدان المغاربية بعد الاستقلال، أظهرت، بما لا يدع مجالاً لأي انسجام، أنّ الاختيارات العامة لبناء الدولة الحديثة، والتحكّم في أجهزتها، ورسم الاختيارات المناسبة لتنفيذ برامجها وخططها، أصبحت متناقضةً متباعدةً محكومة بتنافسية شديدة العنف، وأن الحلول القصوى للانفراد بالسلطة، بمختلف متطلباتها وأدواتها، أدْعَى، في نظر الساعين إليها، إلى انتهاج أساليب خاصة، تميّزت في المسير التاريخيّ الممتد في الزمن، بالاستثناء في كل شيء، ثم استوت على قاعدة الاستبداد، مدعومةً بالدعاوى الإيديولوجية التبريرية المحافظة المبنيّة على التصوّر الديني ومرادفه الشعبوي، فكانت الحصيلة أنها، بالتفاعل مع دينامية الصراع المجتمعي، واجهت أشكالاً من المقاومات مختلفة الصيغ والمستويات والأساليب، في سبيل المطالبة، أو العمل، من أجل الديمقراطية في العموم، وما قد يعطي لوجود هذه الديمقراطية في المجتمع، على وجه الخصوص، المنافع المتوقّعة منها على جميع الأصعدة التي يمكن أن تقوم فيها على أساس الوضوح والشفافية والمحاسبة.

يلاحظ أيضاً أنّ الوضعية السالفة ترافقت مع "حقيقة" ترتبط بالاختيارات العامة المنتهجة، في أكثر من مجال، ويمكن نعتها بـ"الانهيار التدريجي العمومي" الذي كانت له في البلدان المغاربية الخمسة آثارٌ سلبية، ولعلها كانت مدمّرة، لأنها كانت مطبوعة بالأزمة الشاملة المتجدّدة، على البنيات والذهنيات، وأصابت، على نحوٍ خاص، قطاعات محدّدة تخصّ الصحة العمومية، والتعليم الإلزامي المجاني، وأوضاع الثقافة والفكر التي عادة ما تكشف، إلى جانب غيرها أيضاً، عن درجة التطوّر الذي يحظى به المجتمع، ويُقاس به، على صعيد المنظمّات الأممية والدولية المختصّة ذات المصداقية، مستوى رقيه وازدهاره.

الاختيارات العامة لبناء الدولة الحديثة، والتحكّم في أجهزتها، ورسم الاختيارات المناسبة لتنفيذ برامجها وخططها، أصبحت متناقضةً متباعدةً محكومة بتنافسية شديدة العنف

ومما يثير الانتباه، في هذا السياق العام، وهو ممتدٌّ في الزمن منذ فتراتٍ وأجيال، أن ما عنَيْتُه بأوضاع الثقافة والفكر من خلال تجلياتها الكبرى، وهي التي جسّدتها "التصوّرات العقلية" في الحقول المعرفية المتنوّعة من رواد التجارب الوطنية الناهضة، تعطّلت بصورة كلية، لا بسبب "تعطّل" أصحابها عن الإنتاج، مع أنّ كثيرين منهم ماتوا، أو هُمِّشوا، أو خلدوا إلى الشيخوخة اليائسة (الموت)، بل بانحسار دور المعرفة في الإنتاج، وضحالة التكوين الفكري والعلمي (التجهيل المُمَنهج)، الناتجَين عن تدهور الأنظمة التعليمة بصورة أساسية، إلى جانب سوء الأوضاع الاقتصادية العامة وانتعاش الأجواء السياسية، غير الديمقراطية، على النهج الذي تَبْرز فيه "الشعبوية"، إلى جانب البراغماتية المُغْرِيّة، وكأنهما من مقوّمات التطوّر "الموضوعي" الذي تفرضه العولمة، وفي ركابها تكنولوجيا متطورة تراهن على التحوّل الرقمي طمعاً في "أتمتة" أو "نمذجة" أنماط السلوك ومظاهر الوعي وفضاءات التجربة الإنسانية في مختلف مجالات العمل والنشاط. هذا إلى جانب ظهور وبروز وسائط تداولية جديدة تلعب فيها التكنولوجيا، المُشَار إلى طبيعتها، أهم عنصر في التأثير وفي التوجيه كذلك. بل ويمكن القول إنّها، من خلال التأثير والتوجيه هَذَيْن، حوّرت الطرق التقليدية للتلقي شكلاً ومضموناً، أي بتحَوُّل القراءة، مثلاً، إلى مشاهدة، والكتابة إلى سماع وإنصات، والشبكات الاجتماعية كلّها، في إطار ميتا (META)، إلى محيط اجتماعي لا قيود فعلية فيه على جميع الأقوال والأفعال والمشاهدات التي تتفاعل بملايين النُّسَخ والتأثيرات والإغراءات، والتي تصل إلى المستخدم، أو يراها المشاهد، أو يسمعها السامع، فتحقق في ذاته بصورة فعلية سريعة، بطريقة "الاستعلاء"، نوعاً من التفريغ الملائم، ولو وقتياً، لجميع الحالات الانفعالية التي قد تعترض الفرد في وجوده اليومي الخاص، أو في مشكلاته الناتجة عموماً عن مشاركته لغيره في دوائر معينة إنتاجية وغير إنتاجية.

وغير خافٍ أن هناك مناخاً إيديولوجياً أصبحت فيها الذهنيات السحرية، بتأثير من أنماطٍ من التفكير الديني أساساً، تلعب دوراً محورياً في التأثير؛ لأنها تتلاءم، من حيث هي تصوّرات غيبيّة، مع الأوهام التي يكوّنها الفرد عن حياته ووجوده عموماً في إطار المجتمع، وفي علاقته بأطر الحياة العملية، وفي ارتباطه بالدولة بمختلف وظائفها أيضاً. ومن هذه الزاوية، يمكن أن نرى في الاستبداد بنيةً، لا أسلوباً في الحكم اللاديمقراطي فقط، فيكون من بين أهدافه، فضلاً عن القمع والتحكّم والتأطير وتأبيد أوضاع الاستغلال، وتحويل الفضاء العام، الذي هو ساحة المُواطنة والفعل والمطالبة والاحتجاج، إلى فضاء مغلق تسود فيه بالترغيب "قناعة"، أو مُسَلَّمة، يُراد لها أن ترسخ، بأن الحلول الممكنة للأوضاع القائمة لم تعد بالطرق القديمة الرامية إلى التغيير أو الإصلاح، بل بالاستسلام لقدريةٍ مرسومةٍ ترتبط بالولاء والخضوع والتسليم، مع التأكيد الدائم، بمختلف وسائل التأكيد من حيث التواصل والإعلام كذلك، أنّه لم يعد من الممكن لأي داعٍ كان استنساخ الظروف والأفعال، تلك التي تحكّمت من قبل في مناهضة التخلف والدعوة إلى التقدّم والعمل من أجل الثورة... إلخ، لانتفاء الأسباب رغم أنها موجودة، وزوال الاستثناء رغم أنه مترسّخ، بل ولم يعد من الممكن أيضاً، بالتبريرات نفسها، إنتاج ما يوازيها من حيث الاجتهاد وطرائق التحليل والأهمية النظرية، بصرف النظر عن التصورات الإيديولوجية التي تحكّمت في إنتاجها ورواجها وانتشارها وتأثيراتها المباشرة على مستوى الوعي الذي جسّدها في مراحلها المختلفة.

ربما سيكون من المحتّم، في أجل لن يكون بعيداً، أن تصبح المعرفة في ارتباطها بالوعي والعقل، آخر الحلقات التي سيصيبها الذكاء الاصطناعي بالبوار

وربما سيكون من المحتّم، في أجل لن يكون بعيداً، أن تصبح المعرفة في ارتباطها بالوعي والعقل، آخر الحلقات التي سيصيبها الذكاء الاصطناعي بالبوار، ومعها سيكون من المتعذّر تماماً أن نتصوّر، بأي شكل، بروز (تصوّرات عقلية) مسنودة بالنخب السياسية والفكرية والدينية خلف أي مشروع متصوَّر مهما كانت فاعليته. وبعبارة أخرى فزمن (الأنساق) قد ولى، لأنها كانت على علاقة، في العهود السابقة، بما يمكن تسميته (الضرورة الفكرية)، المنبثقة عن التأويل الإيديولوجي الخاص بالعقائد المهيمنة، أو الفعلية، التي ألحت أزماناً على أهمية بناء تصوّرات نظرية حول مفاهيم التقدّم والتطوّر، الإصلاح أو التغيير، تنهض على الوعي النقدي بواقع التخلّف الفكري والسياسي والاقتصادي، والمجتمعي عموماً. ومن المؤكّد أنّ أغلب موضوعاتها، بما اشتملت عليه من تناقضات، ونتج عنها أيضاً من فشل، سَادت لأزمان نهضوية في صفوف الحركات التحريريّة المكافحة للتخلّص من ربقة الحماية الاستعمارية في مرحلة، وكذا إنجاز مهمّات الثورة الوطنية الديمقراطية. في مرحلة أخرى.

والواقع أن الفضاء الفكري والثقافي المغاربي، وهو متنوع مختلف متناقض أيضاً، الذي تأسس، بالإسهام الفعال، بالمعنى التعبوي، للنخب الجديدة، مُوَاليةً ومعارضِة، منذ خمسينيات القرن الماضي، على مشروع الكفاح الوطني من أجل الاستقلال، والنهوض بالأوضاع المتخلّفة التي كرّستها السيطرة الأجنبية، لم يعد يستجيب لأي مثال، ولا على مثال سابق، بالنظر إلى ما في واقعه من استبداد وانهيارات، بل وليس فيه من الدواعي ما قد يُوَلِّد، أو يُسَهِّل بالأقل، أي شكل من التفكير المستقل المبني على أطروحة معيّنة من أطاريح البناء الديمقراطي والتغيير الاجتماعي.

أوجز خلاصتي، في هذا السياق، في أنّ انهيار (الأنساق) الفكرية "الكلاسيكية"، التي عمّرت في أكثر من بلد مغاربي أزيد من نصف قرن، وكانت نابعة، في مرحلتها، من تطوّر الفكر النقدي، التقدّمي والنهضوي عامةً، هو التعبير الأشمل، ونحن على أعتاب مرحلة غير مسبوقة في كل شيء، عن طبيعة الأوضاع السائدة في مجتمعاتنا ودولنا بما فيها من استبداد وتهميش واستغلال تصيب الفرد والمجتمع والبنيات جميعاً. مع الاعتقاد أيضاً بأن فكرة التغيير، على محدودية دوائرها النضالية، ما زالت تتفاعل، ولو بديناميةٍ مُجْهَدة وَفُرقَةٍ بئيسة، في عقول نيّرة لا ترى الخلاص، مرحلياً على الأقل، إلّا في قيام المجتمع الديمقراطي البديل، ولو في الحدود الدنيا الضامنة للحقوق وللحريات وللعيش الكريم.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows