
في شوارع غزة ومناطقها المُهدّدة بالإخلاء، كثيرون يظلون بين أنقاض البيوت والشوارع المدمرة، ليس لأنهم يجهلون الخطر المحدق، بل لأنهم ببساطة لا يملكون ملاذاً آمناً يفرّون إليه. وكان جيش الاحتلال الاسرائيلي قد طلب، مساء أمس الجمعة، من النازحين في محيط مجمّع الوزارات والجامعات غربي مدينة غزة، الإخلاء الفوري، علماً أن المناطق المستهدفة تكتظ بالنازحين الذين يفترشون الشوارع ويقيمون فيما تبقى من مؤسسات. ويعتبر التشبث القسري بما تبقى من الجدران التي لم تعد تقيهم رصاصة ولا قذيفة "صموداً بنكهة العجز"، إذ تعيش العائلات في دائرة من القلق والتوتر والخوف على مدار الوقت، ويهيئون أنفسهم للرحيل، إلا أنهم يعاودون البقاء، ومراقبة الدخان يعلو في الأفق، بينما يواسون أطفالها بكلمات لم تعد تطمئن أحداً.
ومع كل تحذير بالإخلاء تبرز الجملة الأكثر شهرة ورواجاً "وين نروح؟"، وكأن هذا السؤال صار جزءاً من يومياتهم، فالملاجئ مكتظة، والمدارس تحولت إلى مراكز نزوح لا تتسع لمزيد من الأجساد المتعبة، والأقارب الذين يمكن الاحتماء عندهم هم أيضاً يواجهون المصير نفسه. ومع حلول ساعات المساء التي تشتد فيها وتيرة القصف وقساوته، يُخيّم الخوف على تلك الأحياء، إلا أن انعدام الأماكن، بفعل سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على قرابة 75% من مساحة قطاع غزة الذي يعاني أصلاً من كثافة سكانية تعتبر الأعلى في العالم، يجبرهم على تجرع مرارة المجازفة.
ويولد هذا الواقع مفهوماً آخر للصمود، وهو أن تعجز عن الهروب فلا تجد أمامك سوى البقاء، بعد أن تتحول كل الخيارات إلى خيار وحيد، وهو البقاء الذي لا يحمل وعداً بالحياة. "وين نروح؟ لا يوجد أي مكان آمن أو حتى فارغ"، تقول أم محمد عودة، التي نزحت مراراً منذ بداية الحرب، وتضيف: "مع كل نزوح جديد يتجدد الألم، ونشعر بأن الحرب قد بدأت من جديد، فلا أمن ولا أمان ولا مقومات حياة".
وتلفت عودة "العربي الجديد" إلى أن تفاقم الأوضاع المعيشية بات يزيد من صعوبة الحركة حتى أصبحت مستحيلة، في ظل انعدام وسائل النقل، والغلاء الفاحش في أسعارها، وقبل كل ذلك انعدام الأماكن التي يمكن لأسرتها المكونة من سبعة أفراد أن تتوجه إليها". وتبين عودة أن الفلسطينيين في غزة يعيشون ظروفاً غير آدمية، ولا يمكن تصورها، حيث يواجهون الخطر المتواصل على حياتهم، سواء بفعل القصف والتهديد، أو حتى نفاد المواد الغذائية وغلاء الأسعار، في الوقت الذي نفدت فيه أموال المواطنين ومدخراتهم، فيما باع البعض ممتلكاته لشراء الطعام.
وتعرضت كل عائلات قطاع غزة للتهديد بالإخلاء مراراً، ما اضطرهم إلى التنقل بين مدرسة وأخرى، وبين مخيم ومستشفى، ومحافظة وقرية، حتى أصابهم النزوح المتواصل بحالة من الإرهاق، وعدم القدرة على تكراره مجدداً، رغم الخطر. ويقول الفلسطيني أدهم حنيدق، إنه لم يتمكن من النزوح من منطقته وسط مدينة غزة لغياب مكان يمكنه نقل أسرته إليه، "كل المدارس ومخيمات النزوح مكتظة بمئات آلاف الأسر، ولا يمكنها استيعاب أي عائلات جديدة".
ويبين حنيدق لـ"العربي الجديد" أن إخلاء مناطق واسعة من شمال قطاع غزة حتى جنوبه تسبب في تكدس أعداد هائلة في مناطق ضيقة، سواء داخل المخيمات، أو البيوت التي ما زالت قائمة، والتي تستضيف في كل ركن منها نازحين، وهو ما يجعل من المستحيل استضافة نازحين جدد. ويوضح حنيدق أن التكدس وصعوبة الأوضاع الاقتصادية باتا يكبلان أيادي الكثير من العائلات الفلسطينية، ويجبرانها على المخاطرة والبقاء في المناطق، على الرغم من تواصل المجازر والجرائم الإسرائيلية. يقول: "لم نعد نمتلك رفاهية الاختيار".
ويتحول البقاء القسري في غزة إلى تحدّ ومعاناة جديدة، إذ إن الخيارات تضيق حتى تنعدم، ويوضح الفلسطيني عبد الرحيم سعد، أن النزوح لم يعد هرباً من الخطر، بل انتقالاً من شكلٍ آخر له، وإن المكوث في البيت أو الخيمة، رغم أصوات الطائرات والخطر، صار حلاً إجبارياً ومُراً. ويوضح أنه في قطاع غزة بأسره لا توجد "مناطق آمنة" كما يدّعي الاحتلال، فكل الأماكن على الخريطة تحت النار، وكل خطوة تُحسب إما باتجاه الحياة أو الموت، وهو ما يبقي الغزيين في حالة من التوتر والحيرة المتواصلة، وانعدام الخيارات، تماماً مثل انعدام سبل ومقومات الحياة.
وتبدو الشوارع المهددة بالإخلاء شبه خالية إلا من أزيز الطائرات وصدى الانفجارات، وبين بيوت نصفها ركام ونصفها يترنح على حافة السقوط، في الوقت الذي يعجز آلاف المدنيين في غزة عن إيجاد بدائل أو مناطق أكثر أمناً، بعد أن حوّل العدوان مختلف مناطق القطاع إلى ساحات قتال.

Related News
