
يتيح النبأ الأليم، وفاة الصحافي الأردني سيف الشريف، عن 72 عاماً، قبل أيام، مناسبةً لاستعادة السيرة المهنية والسياسية والثقافية لأسرة الزميل، الذي انتُخب نقيباً للصحافيين في بلاده أكثر من مرّة، وتولّى منصب المدير العام لصحيفة الدستور التي ارتبطت، في نشأتها ومسارها عقوداً، في الزمن الذهبي للصحافة الأردنية، بوالده وعمّه الوزيريْن الراحليْن، محمود الشريف وكامل الشريف، اللذين قاما على تأسيسها والمضيّ بها، لتكون أول صحيفةٍ يوميّةٍ في شرق الأردن، مع صدورها في مارس/ آذار 1967، نتاج دمج صحيفتي، المنار التي كان الأخوان الشريف (وصديقُهما جمعة حمّاد) قد أسّساها في القدس في 1960، وفلسطين التي كان قد أسّسها عيسى العيسى، وصارت يوميّة في 1930. ولا تُنسى (أو لا يجوز أن تُنسى) مجلة الأفق الجديد، التي كانت تصدُر عن دار المنار، وكانت من أهم المجلات الأدبية العربية، بالنظر إلى دورها المهم، الحداثي، في الستينيات. ودلّت رئاسة محمود الشريف تحريرَها على النزوع الليبرالي في شخصه (درَس في جامعة القاهرة الأدب الإنجليزي، وأصدر كتاباً عن فيتنام)، على غير ما كان عليه شقيقُه (الأصغر) كامل الشريف الذي ظلّ على سمْتٍ محافظٍ وتقليدي، وقاتل مع "الإخوان المسلمين" في حرب 1948 في فلسطين، وكان من أهم أعلام الجماعة عقوداً، واسماً بارزاً في العمل الإسلامي الدعوي والفكري والإغاثي، وقد تولّى وزارة الأوقاف الأردنية في بعض السبعينيات والثمانينيات، بعد عمله سفيراً في خمسة بلدان، فيما عمل محمود الشريف وزيراً للإعلام شطراً قصيراً في النصف الأول من التسعينيات، بعد أن كان رئيس تحرير "الدستور" وقلماً مقروءاً فيها سنوات. وليس الراحلان (توفي محمود في 2003 عن 78 عاماً وتوفي كامل في 2008 عن 77 عاماً) وحدهما من الأسرة اللذان صارا وزيريْن، فقد كان الأستاذ الجامعي في الأدب الإنجليزي، رئيس تحرير "الدستور" عدّة سنوات، نبيل الشريف (توفي في 2021 عن 69 عاماً) آخر وزير إعلام في الأردن، قبل أن يصبح سفيراً في المغرب.
تُعرّف هذه المقالة قرّاءها ببعض الإسهام الثقيل القيمة لهذه الأسرة الكريمة في تاريخ الصحافة في الأردن وفلسطين، بإيجاز شديد (كل إيجازٍ مخلّ)، تذكيراً بأن المبادرات الفردية، إذا ما تنكّبها أصحاب نباهة وأهل كفاءة وجدارة، تنجح وتتميّز، لا سيّما في بيئاتٍ تساعدها. ومن شديد الأهمية أن يُعرّفَ القرّاء أيضاً بأن هذه الأسرة من منبتٍ مصري، فالشقيقان الرائدان، والشقيقان التاليان نبيل وسيف، من مواليد العريش المصرية، وقد قدم محمود الشريف إلى عمّان في 1956، وعمل في الإذاعة الأردنية، قبل أن يرتحل إلى القدس التي شارك فيها بتأسيس صحيفة المنار (وأصدر صحيفة بالإنجليزية أيضاً في 1962!). وفي وصول أفراد عائلة غير أردنية المنبت إلى مناصب عليا في المملكة ما يشهد على التكوين الخاصّ للدولة والمجتمع في الأردن، حيث تتشكّل هوية وطنية منفتحة، لبلدٍ ناهضٍ وطموح، خصوصاً في سنوات البناء والإقلاع في تلك الخمسينيات. وأجدني هنا أدعو، بشيء من الإلحاح، الصديق أسامة الشريف (نجل محمود وأخو سيف ونبيل، ورئيس تحرير سابق لـ"الدستور" أيضاً)، إلى تدوين سيرة والده وعمّه وأخويه، ورحلة الأسرة، وتوثيق هذه التجربة، فمن حقوقنا، نحن الأردنيين، أن تُصان مساهمات من شاركوا في بناء بلدهم، على غير صعيد، من النسيان والإغفال.
ربما هي شحنة شعورية وراء انشغالي، هنا، بالذين بنوا "الدستور" الأردنية، فذلك لما لهذه الصحيفة من مكانة حميمة في ذاكرتي، فهي أول صحيفة أرى فيها اسمي مطبوعاً (في بريد القرّاء)، ثم نشرتُ فيها الكثير، وبقيتُ سنواتٍ أستشعرُها بيتاً دافئاً لي. غير أن شعوراً مالحاً يستبدّ فيّ، لأن راهن الصحافة الأردنية لا يسرّ الخاطر. وأيضاً للنهاية المؤسفة التي صار عليها آل الشريف في الصحيفة التي بنوها، وأسّسوها شركة مساهمة، فقد سيق الراحل أخيراً، سيف الشريف، إلى المحاكمة، باتهام مجلس الإدارة له بما يُعيب أداءه مديراً عامّاً، غير أن محكمة البداية برّأته، ثم محكمة الاستئناف، ثم محكمة التمييز بقرارٍ قطعي (قبل شهور)، بعد إصرار المجلس على هذه المستويات في مقاضاة الرجل الذي أشهر أنه جرى إنهاء خدماته تعسّفاً. رحمه الله، ورحم شقيقه نبيل الشريف الذي كان مدهشاً منه قولُه لي، في الدوحة قبل شهور من وفاته، إن حلّ أزمات صحيفة الدستور المتراكمة... بإغلاقها.

Related News
