في غزة، بات من الصعب تصديق أن الحرب ستنتهي بالفعل. فكل مرة ترتفع فيها نبرة التفاؤل بوقف إطلاق النار، سرعان ما تتبخر الآمال مع فشل جولة جديدة من المفاوضات. هنا، في أرض الواقع، لم نعد نصدّق سوى الحرب. فهي وحدها التي تتكرر بثبات، وتفرض حضورها علينا بوصفها أكثر الوقائع صدقًا ووضوحًا في حياتنا اليومية.
للحرب طعم مر. تمارس علينا عنفها المفرط بلا رحمة، لكنها – على فظاعتها – لا تبيعنا الوهم. بخلاف ما تفعله الشائعات المتكررة عن "هدنة قريبة"، أو وقف إطلاق نار "وشيك"، يعيد إنتاج الأمل فخاً.
قال ترامب مؤخرًا: "الآن هو وقت السلام". لكن، عن أي سلام يتحدث؟ وأي حياة تنتظرنا بعد كل هذا الخراب؟ كيف نعود إلى مدن لم تعد مدنًا، بل أكوام ركام؟ وهل يمكن لغزة، بعد هذه الإبادة الطويلة، أن تعود صالحة للحياة؟ أم أن الحديث يدور عن هدنة مؤقتة تمهّد لجولة جديدة من الدم؟
الهدنة، في ظاهرها، وقف لإطلاق النار. لكن في حقيقتها إعلان عن بداية حياة مجهولة، لا نعلم كيف نتعامل معها، ولا ما إذا كنا مهيئين أصلًا لخوضها. نحن أبناء هذا الإيقاع الوحشي، أسرى حسابات سياسية فرضت علينا تفاصيل يومنا. اعتدنا مشاهد الدمار، ومقايضة البقاء بما تبقى من كرامة. أما الحياة الطبيعية، فصرنا نخشاها كما نخشى الحرب.
لقد فقدنا كل شيء: منازلنا، طقوسنا، كتبنا، عزلتنا، أماكننا الآمنة، وحتى ملامحنا الشخصية. الهدنة لن تعيد كل ذلك، لكنها ستجبرنا على مواجهة الفراغ
لقد فقدنا كل شيء: منازلنا، طقوسنا، كتبنا، عزلتنا، أماكننا الآمنة، وحتى ملامحنا الشخصية. الهدنة لن تعيد كل ذلك، لكنها ستجبرنا على مواجهة الفراغ. ستطلب منا أن نبدأ من جديد، لكن بأي أدوات؟ وبأي نفس؟
كلما تذكرت ما قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، تجتاحني الحسرة؛ مفارقة قاتلة بين ما كان وما آل إليه الحال. الماضي القريب صار مستحيلًا، والحاضر لا يُحتمل. وهذا الوجع بالذات، أخشى أنه ما سيقتلني كمدًا ذات يوم.
لقد عايشتُ الجوع، والخوف، والقيامات المتكررة. شاهدتُ النار تشتعل كل يوم وكأن الموت لا يعرف غيرنا عنوانًا.
وإن جاءت الهدنة، فإن ما سيتوقف ليس القصف فقط، بل إيقاع كامل لحياة أرهقتنا. لكن بدلاً منه، سينطلق إيقاع آخر... لا أعلم إن كان أبطأ أم أسرع، لكنه سيكون مختلفًا تمامًا، غريبًا كأننا نولد من العدم.
لقد غيّرتني هذه الحرب. نجحت مشاهد الجثث المتحللة، والدمار اللامتناهي، والانفجارات المروعة، في سحق ذاكرتي وسرقة أجمل أيام عمري!
ولذلك، إن جاءت الهدنة، فلن تكون مجرد لحظة سياسية، بل ستكون بمثابة ساعة رملية جديدة... إما أن أستعيد حياتي شيئًا فشيئًا، أو أن أفقدها إلى الأبد.
أفكر أن الهدنة هي الخط الفاصل بين موت جماعي يحدث الآن، وحياة سيواجهها كل فرد لوحده في ما بعد.
في كل مدينة متعبة نجت من القصف، يكمن اختبار آخر. تلك الأماكن تتوقع منّا أن نبادلها الأمل، لكنها لا تعلم كم أرهقنا هذا الركض الطويل خلف البقاء.
ستكشف الهدنة الانهيار المجتمعي الذي ضرب البنية الاجتماعية في القطاع. النزوح، تكدس العائلات، غياب الخصوصية، الفقر، جميعها عوامل أضعفت العلاقات وكسرت شبكات الأمان المجتمعي. كثير من الناس انكشفوا أمام بعضهم البعض. هشاشة مرعبة ضربت المنظومة الأخلاقية والسلوكية في ظل الجوع والنجاة الفردية.
أما الأطفال، أولئك الذين عاشوا الحرب بائعين متجولين أو متسولين بدلًا من أن يكونوا طلابًا، فسيعودون إلى "مدارس" بلا تجهيزات، يحملون جروحهم في حقائبهم، ويرافقهم الحزن بدل الحكايات الطفولية. كيف نشرح لهم أن للحياة إيقاعًا أبطأ من الرصاص، وأكثر واقعية من سوق الإغاثة؟
الهدنة تعني أيضًا استئناف العلاقات العائلية التي انقطعت، وبداية إعادة ترميم الروابط الاجتماعية. لكنها ستكون مهمة شاقة، في ظل التغييرات النفسية والمادية العميقة التي لحقت بالجميع.
التحول الأصعب، ربما، هو الانتقال من فكرة "النجاة بأي ثمن" إلى التفكير في المستقبل. الغزيون ينتظرون انتهاء الحرب للهروب منها، لا للبقاء. "سأسافر" هي الإجابة الأوضح لأي سؤال عن ما بعد الحرب. رغبة في الهروب من سجن كبير، تشكّل في الحرب وتضخم على مدار الشهور.
لقد سلبتنا الحرب هوياتنا، إرادتنا، وحتى قدرتنا على الحلم. وإن جاءت الهدنة، فلن تكون لحظة خلاص، بل بداية مواجهة مع هشاشتنا الداخلية. سنقف على أنقاض ما كنا عليه، نتساءل: هل يمكن ترميم ما تهدّم؟ وهل يسمح لنا الواقع أن نحلم من جديد؟
في غزة، نخاف الهدنة كما نخاف الحرب، لأن كليهما اختبار. وبينهما، يقف الناس على حافة سؤال واحد: هل سنكون قادرين على استعادة ذواتنا، أم أن ما ضاع قد ضاع إلى الأبد؟
Related News


