فلسطين في "كارلوفي فاري 59": الحكاية ولا شيء غيرها
Arab
2 days ago
share

 

مُجدّداً، تحضر فلسطين في مهرجان سينمائي، في لحظة إبادة إسرائيلية مستمرّة منذ "طوفان الأقصى" (7 أكتوبر/تشرين الأول 2023)، فيُثار سؤال مدى التزام الأفلام المختارة شرطها السينمائي. فالحضور، أساساً، مهمٌّ ومطلوبٌ، إذْ تعكس تلك الأفلام شيئاً من واقعٍ يعانيه شعبٌ وبلد واجتماع، وإنْ يُروى الانعكاس عبر حكايات فردية. والمهرجانات، باختيارها أفلاماً من فلسطين وعنها، تكاد تُعلن نوعاً من حياديّةٍ لها (هناك غالباً، في المقابل، أفلام إسرائيلية أو عن إسرائيل) إزاء الحاصل من جُرمٍ يوميّ، يزداد عنفاً يوماً تلو آخر، فإذا بالمُختار يقول ما يُفضّل الغرب، حكومة ومؤسّسات وشرائح إعلامية وثقافية واجتماعية عدّة، على الأقلّ، ألّا يقوله: هناك إبادة إسرائيلية، منبثقةٌ مما قبل نكبة 1948.

في الدورة 59 (4 ـ 12 يوليو/تموز 2025) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي"، هناك فيلمان (إنتاج 2025): "إللي باقي منك" للأميركية الفلسطينية شيرين دعيبس (كتابة وإخراجاً وإنتاجاً وتمثيلاً)، و"ضعي روحَكِ على كفِّكِ واِمْشي" للإيرانية زْبِيدة فارسي. الأول (عروض خاصة) روائي، يستعيد تاريخاً فلسطينياً لكشف راهنٍ متخبّطٍ في صراع "دائم" مع عدو يزداد وحشية؛ والثاني (مسابقة آفاق) وثائقي يقترب، شكلاً، من حوار مُصوّر عبر وسائل تواصل، لسرد يوميات غزّة، منذ الردّ الوحشي الإسرائيلي على الطوفان.

الأول، الذي ينال تصفيقاً لأكثر من 10 دقائق في عرضه الجماهيري الأول في "كارلوفي فاري"، يُغلِّب الحكاية (المروية بشيءٍ من ثرثرة بصرية وفراغاتٍ درامية يُمكن تكثيفها بحذف دقائق كثيرة لا فائدة سينمائية منها)، ويرتبك في استعادة يُراد تلقينها لغربٍ غافلٍ أو متجاهل أو لا مبالٍ، فإذا بالتصفيق إشارة إلى اهتمامٍ وتجاوب خارج السينما، وهذان كافيان في لحظةٍ احتفالية كهذه. امّا الثاني، فأكثر إيلاماً، خاصة عند من يُدرك حقيقة الحكاية: المُصوِّرة الفوتوغرافية الصحافية فاطمة حسّونة، الشخصية الوحيدة في فيلم زْبِيدة فارسي، تُقتَل في 16 إبريل/نيسان 2025، بعد شهرٍ واحد على بلوغها 25 عاماً، وما ترويه فتاتٌ من بؤس فلسطيني "جديد"، يكشف بعضه الأكثر "إللي باقي منك"، بلغة مختلفة تماماً.

 

 

فاطمة حسّونة، المبتسمة دائماً بعينيها الخضراوين، مكتفية بصُور فوتوغرافية توثِّق حياة ملطّخة بالموت، وتُقتَل (يتردّد أنّ الغارة الإسرائيلية على منزلها مقصودة، إذْ تحصل بعد ساعات على إخبار فارسي الشابّة أنّ الفيلم مختارٌ لعرضه في مهرجان "كانّ 2025") لأنّ كلّ فلسطيني/فلسطينية هدفٌ للوحش الإسرائيلي، ولأنّ المُصوّرة الشابة توثِّق الجرم بصُور كثيرة لها، ولأنّ بلوغ صوتٍ فلسطيني، وإنْ عبر كاميرا إيرانية (أي غير فلسطينية) مُضرّ للمحتلّ، ولأنّ كلّ صوت صادق يقول حقّاً يجب أنْ يُقطَع.

وإذْ تغوض شيرين دعيبس في الشقاء الفلسطيني المزمن، رغم عجزٍ سينمائي عن تكثيف درامي مطلوب بشدّة؛ تكتفي زْبِيدة فارسي بتواصل سمعي بصري مع شابّة، تبدو أنّها مليئة حيوية وحماسة ورغبات شفّافة، رغم كلّ الظلام والدم والغبار حولها، مع ما لديها من أحلام بسيطة: عيش بسلام، وسفر إلى عالمٍ، وهدوء يُتيح لها تحقيق عشقها التصوير الفوتوغرافي. مع دعيبس، تُصبح رحلة التاريخ ثقيلة لما فيها من بطء في سرد الحاصل أعواماً، ولتأخّر درامي طويل في بلوغ لحظة الانقلاب، المتمثّلَين (اللحظة والانقلاب معاً) بسؤال/معضلة أخلاقية ووطنية وبشرية وانفعالية. ففي مقابل غياب لحظة كهذه إلى ما بعد انتهاء التصوير في شريط فارسي (مقتل حسّونة)، تنكشف اللحظة/المعضلة بعد وقتٍ طويل على مقدّمات مطوّلة وباردة (فيلم دعيبس)، ومُفرّغة من أي جديد في سرد المتداول، ما يصنع فجوة كبيرة بين هذا المرويّ في الشاشة والجالس/الجالسة في القاعة، إنْ يُدرك المُشاهِد/المشاهِدة حقائق التاريخ والجغرافيا. أمّا غير المُدرك، فلعلّه ينجذب إلى المرويّ، متابعاً ربما روايةَ دعيبس باهتمامٍ.

زْبِيدة فارسي غير مكتفية بحسّ سينمائي إزاء فاطمة حسّونة، في حوارها الطويل، نسبياً، معها (113 دقيقة). لحظات عدّة، بل نبرة وتعبيرٌ غير مباشر عن انفعال لها، كأنّها (المخرجة) أمٌّ تريد تعويض غياب الوالدة عنها بممارسة دورها مع فاطمة. اهتمامها بقطّة لها في منزلها، أثناء كلامٍ لفاطمة، يُفسَّر إمّا بتساويها بين كائنات حيّة متشابهة في حقّها في عيشٍ هادئ وسليم وعادي، وإمّا بـ"هروبٍ" مؤقّت من وطأة خراب تحسّ به عبر كلام الشابّة. شيرين دعيبس، بتأديتها شخصية امرأة (زوجة، أم) تروي لإسرائيليّ حكايةً فلسطينيةً، تبدو على مسافة من كلّ شيءٍ: كتابة محتاجة إلى صقل وتشذيب كي يتماسك السيناريو بتحرّره من ثرثرة وفراغات بصرية مملّة (145 دقيقة)، وكي تُعالج اللحظة/المعضلة سينمائياً بشكل أفضل وإنسانياً/أخلاقياً بشكل أعمق (أيُمكن كشف تلك اللحظة/المعضلة، أمْ يُفضَّل تركها لمُشاهدة ربما لن يتمكّن منها كثيرون وكثيرات؟).

بإصرارها على التمثيل (يُستَحسن ألّا تمارس هذه المهنة لعدم تملّكها شيئاً منها)، تريد دعيبس مشاركةً أشبه بالتسلّط على الجوانب كلّها لفيلمٍ، ركيزته الأهم مسألتان اثنتان: تحوّل جذري في علاقة ابن بوالده، بعد تعرّض الأخير لإذلال على حاجز عسكري إسرائيلي أمامه، ووهب الأعضاء الفلسطينية لإسرائيليين.

اختزال كهذا للفيلمين غير صائبٍ تماماً، ففي كلّ منهما مسائل تحثّ على نقاشٍ نقدي (لاحق)، لن يحول دون أهمية اختيار أفلامٍ فلسطينية (إنتاج فلسطيني أمْ غير فلسطيني، فالأهمّ أنّ الفلسطيني حاضرٌ في مضمون وتفاصيل واشتغالات وناس) في مهرجانات غربيّة.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows