رحيل عادل الترتير... صندوق العجب يغلق للمرة الأخيرة
Arab
3 days ago
share

توفي الفنان والمسرحي الفلسطيني عادل الترتير اليوم الخميس، عن عمر 74 عاماً، بعد مسيرة فنية استثنائية تُعدّ من أكثر التجارب تفرداً في تاريخ المسرح الفلسطيني. برحيله، تفقد الحركة الثقافية الفلسطينية أحد أعمدتها، ومناضلاً اختار المسرح سبيلاً لتحرير المخيلة، والتصدي للنسيان، وصناعة الأمل في واقعٍ مشظّى ومثقل بالقهر والنكبات.

وُلد عادل الترتير عام 1951 في سقيفة من الزينكو قرب رام الله، لأسرة لاجئة هجّرتها نكبة عام 1948 من مدينة اللّد. لم تكن ولادته مجرد حدثٍ بيولوجي، بل كما كتب في تأملاته الذاتية: "خرجت من الكواليس ووصلت إلى المسرح الأكبر، هذه الحياة". منذ الطفولة، بدأ بالتقليد والارتجال داخل سقيفة العائلة، يستمع لقصص الزوّار من مختلف الأطياف، يرويها، ويعيد تمثيلها، ويراقب بحسٍ مبكر التحوّلات الاجتماعية والسياسية التي يعيشها من حوله.

من السقيفة إلى المسرح

لم يكن المسرح بالنسبة للترتير مجرد وسيلة للترفيه أو التمثيل، بل كان مساحة لطرح الأسئلة الوجودية والفكرية، وأداة لفهم العالم ومواجهة القهر. بعد نكسة عام 1967، تعزز هذا الإدراك لديه، وراح يبحث عن جماعة فنية تُشاركه الإيمان بأن المسرح يجب أن ينبثق من التجربة اليومية، ويعبّر عن هموم الجماهير وأحلامها. وفي القدس، التقى بمجموعة من الفنانين الشباب الذين شاركهم التأسيس لفرقة "بلالين" التي شكّلت نواة لحركة مسرحية فلسطينية جديدة، تعتمد على العمل الجماعي التعاوني، من دون نجم أو مخرج أو بطل أو وصي. قدّمت الفرقة على مدى خمس سنوات أعمالاً لافتة مثل "قطعة حياة" و"العتمة" و"الكنز" و"ثوب الإمبراطور" و"عنتورة ولطوف" وغيرها، وهي عروض لم تكن تسعى للمجانية الفنية، بل للارتباط بقضايا الناس، والإسهام في تشكيل وعي جمعي يتجاوز الخطابة السياسية إلى سؤال الذات والواقع.

"صندوق العجب"

عام 1975، انتقل الترتير مع عدد من شركائه، من بينهم فرانسوا أبو سالم ومصطفى الكرد وأنيس البرغوثي، إلى مرحلة جديدة أكثر طموحاً، بتأسيس "مسرح صندوق العجب" كأول تجربة مسرحية فلسطينية محترفة ومتفرغة في الأرض المحتلة. حملت التجربة شعاراً لافتاً: "حياتنا المسرح والمسرح حياتنا"، لكنها اصطدمت سريعاً بالعقبات المادية والمعنوية، من غياب الدعم وتراكم الديون، إلى تنقّل الفنانين بين المدن من دون أجرة باص. رغم ذلك، استطاع الفريق إنتاج أعمال ذات مستوى عالٍ، أبرزها مسرحية "لما انجنينا" التي أنجزها الترتير وزملاؤه بكل تفاصيلها، تأليفاً وتصميماً وتمثيلاً وإخراجاً. بعدها، أنتج مع أنيس البرغوثي "تغريبة سعيد ابن فضل الله"، في تجربة تنوس بين العبث والمرارة، وتؤرخ لواقع الفلسطيني بتجريده وتفصيله معاً.

عادل الترتير وحيداً على الخشبة

في لحظة تشظٍ وانكفاء عام، وجد الترتير نفسه وحيداً في مسرح بلدية رام الله، حيث الأبواب مخلّعة والجدران عارية. لم يستسلم، بل قرر أن يقدّم عملاً مسرحياً بمفرده، فجاءت مسرحية "راس روس" عام 1980 كأول مونودراما فلسطينية، كتبها وأخرجها وأدى أدوارها كلها بنفسه. العمل لم يكن استعراضاً ذاتياً بقدر ما كان صرخة فنية في وجه الإهمال، ومحاولة لإنقاذ المسرح من موته الوشيك. أعقب ذلك أعمال جديدة ضمن "صندوق العجب" مثل "من يعلق الجرس" و"الأعمى والأطرش"، و"القبعة والنبي" المستندة إلى نصوص غسان كنفاني، والتي اضطرت الفرقة لتقديمها كمونودراما مرة أخرى، بفعل صعوبات التمويل وانحسار الفضاءات المسرحية المناسبة.

التحولات السياسية وتجريف المسرح الأصيل

مع بداية تسعينيات القرن الماضي، واجه الترتير كغيره من المسرحيين الفلسطينيين، جملة تحولات سياسية وثقافية أضعفت الحركة المسرحية الأصيلة، ودفعت باتجاه البيروقراطية والتمويل المشروط. لم يقبل الترتير بالامتثال لهذا الواقع، وابتكر صيغة جديدة، قائمة على العودة إلى التراث الشعبي، عبر "صندوق العجب" وقرينه الحكواتي "أبو العجب"، في محاولة لصياغة شكل مسرحي جامع، يمزج الحكواتي بالتقنيات الحديثة، ويستعيد روح الفعل المسرحي الجماهيري. على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، ظلّ الترتير يجوب فلسطين وأجزاء من العالم العربي بهذا الشكل الفني، مطوراً أكثر من عشرة أنماط مسرحية مستلهمة من فكرة الصندوق، متمسكاً بما أسماه "الاستقلالية التامة للمسرح"، ورافضاً تسييسه أو تحجيمه أو تحويله إلى نشاط وظيفي أو استهلاكي.

شاهدٌ على المسرح وقضاياه

كان عادل الترتير يرى أن المسرح يجب أن يكون مساحة دائمة للجدل والنقد الذاتي، ومنصة منحازة للفقراء والمضطهدين، وبوصلة للتحرر والانعتاق. ظل يؤمن بأن كل انتكاسة يعيشها المسرح هي مؤشر على حال المجتمع بأسره، وكتب ذات مرة: "كلما تراكمت هموم المسرح والمسرحيين وتبددت آمالهم وتبعثرت أحلامهم، فلنعلم يقيناً وجميعاً – كثقافة وكمجتمع وكقضية – أننا لسنا بخير". برحيله اليوم، لا تُطوى فقط صفحة فنان كبير، بل تغيب قامة مقاومة صاغت من الهامش مشهداً ثقافياً متكامل الأركان، وسعت لأن يكون الفن سبيلاً للخلاص لا أداة تزيين للخراب.

رحل الترتير، لكن "صندوق العجب" الذي ظلّ يفتحه أمام الجمهور في المدن والمخيمات سيظل شاهداً على مسرح كان – ولا يزال – صوت الضمير الفلسطيني في أكثر لحظاته هشاشة.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows