... وبعض الصمت خيانة
Arab
3 days ago
share

لم يكن أحد ليتوقع أن تنهاري في لحظة، لا أنتِ، ولا من حولكِ، ولا حتى ذاك الجزء منكِ الذي كان يظنّ أن الصبر نعمة والكتمان فضيلة، وأن الرضا بالقليل حكمة. لكن الحقيقة التي لا تُقال كثيراً أن الداخل المُثقَل بالخذلان، حين لا يجد مخرجاً، ينفجر. ليس في لحظة مواجهة، بل في لحظة تافهة لا تليق بحجم الاحتراق المتراكم.

شيء تافه، ككوب مكسور أو كلمة عابرة أو كموقف عادي، يكفي لفتح السدّ، لأنكِ قد أغلقتِ كلّ الأبواب من قبل، وظننتِ أن كبتكِ انتصار، وابتسامتكِ علامة نُبل.

لقد درّبتِ نفسكِ على التحمّل، حتى صرتِ خبيرةً في الصمت. تعلّمتِ أن تخنقي غضبكِ بابتسامة باهتة، أن تبتلعي ألمكِ على مهل وكأنكِ تتذوقينه، أن تبرّري لنفسكِ تجاهل الآخرين لكِ بأنكِ "أقوى من أن تحتاجي"، وأن تُقنعي ذاتكِ المُرهقة بأن القناعة كنز لا يفنى، بينما أنتِ داخلياً تنزفين كلّ يوم من خيبات لا تجد طريقها إلى الخارج.

ولأنكِ اخترتِ ألا تُطالبي بحقّكِ، ولأنكِ قلتِ في لحظة تعب: "يكفيني ما نلته، ولو كان أقلّ ممّا أستحق". كنتِ تضعين حفنة أخرى من البارود في في بوتقة الانفجار المنتظر. لم يكن ذلك تواضعاً ولا رضاً، بل كان خنوعاً مغلّفاً بلغة الحُكماء. وكلّما تخلّيتِ عن حقّك، تكوّمت في صدرك مرارة. وكلما قلتِ: "لا بأس"، تراكمت داخلكِ الأحاسيس التي لم تجد من يُنصتْ لها، فبدأتْ تهمس لكِ أنتِ، في داخلك، ثمّ تصرخ، ثمّ تحترق، بصمت.

تمرّ بكِ الأيام، وأنتِ تمارسين دورك بإتقان؛ القوية، الصبور، التي لا تشتكي، ولا ترفع صوتها، ولا تدخل معاركَ خاسرة. لكن من قال إنها كانت خاسرةً؟ ومن قرّر أن خوضها كان ضعفاً؟ أم إنكِ أقنعتِ نفسكِ بأن الكرامة في الصمت، والبطولة في التحمّل؟ لقد خدعتك فكرة البطولة كما رُسمتْ في القصص، وأنتِ لم تكوني بطلةً، بل كنتِ امرأةً تختنق.

ثمّ يأتي ذلك اليوم، يومٌ تكونين فيه متعبةً أكثر من المعتاد، هشّةً أكثر من ذي قبل، صامتةً كما عوّدتِ نفسكِ، حتى يحدث أمرٌ تافه أو شيء لا يُذكر؛ كأن تسقط ملعقة، أو يتأخّر أحدهم، أو تُقاطعكِ زميلتكِ في الكلام، أو تنظر إليكِ إحداهن بنظرة لا تعجبك، فتنفجرين. ترفعين صوتكِ، أو تنهارين بالبكاء، أو تغادرين المكان من دون مبرّر واضح، ويتفاجأ الجميع: "ما الذي حدث؟ لماذا هذا الغضب كلّه؟"، ولا أحد يعلم أنكِ في تلك اللحظة لم تكوني غاضبةً من الحدث، بل من نفسكِ، ومن سكوتكِ الطويل وخيباتكِ الصامتة، ومن كُلّ تلك المرّات التي قلتِ فيها: "عادي"، وهي لم تكن عاديةً قَطّ.

وهنا يبدأ الداخل في فضحك. يخرج الألم دفعةً واحدةً، بلا ترتيب ولا سياق، وكأنّكِ كنتِ تخزنينه في زواياك. لا لأنكِ ضعيفةً، بل لأنكِ إنسان. لأنكِ حاولتِ أن تكوني أكبر من ألمك، لكنّكِ نسيتِ أن الاحتواء الحقيقي يبدأ من الاعتراف، لا من التجاهل.

والناس لا يرون سوى اللحظة التي تنفجرين فيها، فيحكمون عليكِ من خلالها. لكنّهم لا يرون الليالي التي بلعتِ فيها غصتكِ، والمواقف التي سكتِّ فيها خوفاً من أن تُوصفي بأنكِ "كثيرة الطلبات" أو "حسّاسة". لا أحد يعلم أنكِ في كلّ مرّة سامحتِ فيها من لم يعتذر، أو قبلتِ بأقلّ ممّا تستحقّين، كنتِ تخسرين جزءاً من نفسكِ.

والأصعب من ذلك كلّه أنكِ كنتِ تظنّين أن هذا ما يجعلك "بطلةً". فلطالما قالوا لكِ إن البطولةَ هي ألا تغضبي، ولا تُطالبي، ولا تُعاتبي. لكنّ البطولة الحقيقية هي أن تعرفي متى تصمتين، ومتى تتكلّمين، ومتى تعفين، ومتى تضعين حدّاً، ومتى ترضين بالقليل، ومتى تُصرّين على الكثير.

لن تُحاسَبي على عدد المرّات التي كنتِ فيها مؤدّبةً وهادئةً، بل على عدد المرّات التي خذلتِ فيها نفسكِ بدعوى الحِكمة. وسيأتي يومٌ تدركين فيه أن الانفجارات الصغيرة التي حاولتِ تفاديها كانت أهون بكثير من الانفجار الكبير الذي دفن فيكِ أشياء لا تُعوّض.

لا تكبتي. لا تُجَاملي على حساب كرامتكِ، ولا ترضي بالقليل لأنكِ خائفةٌ من الوحدة أو الرفض. تحدّثي، طالبي، احزني، اغضبي، ثمّ اهدئي. فقط، لا تكتمي، فبعض الصمت خيانة.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows