أناييس نن... حبيبة ميللر ونقيضه التام
Arab
3 days ago
share

نحاول، في كتاب "تقديراً للرجل الرهيف" (نقله إلى العربية محاسن عبد القادر، دار المدى، بغداد، 2022)، أن نتبيّن (ونتابع) ذلك الخيط الرهيف والحادّ من التناقض ما بين الكاتبة أناييس نن والكاتب الأميركي هنري ميللر، رغم أهمية ما اجتمعا عليه من محبّة وتقدير ورعاية فائقة، من جانب أناييس نن بالطبع، وخصوصاً في بدايات هنري ميللر وتعثّراته الأولى، ونهمه الهادئ للحياة، والكتب، والمغامرات.

كانت أناييس تفضّل، منذ البداية، أن تكون زوجةً لفنّان فقط، زوجةً تساعد الفنّان وتقف في جواره، ولكن يومياتها الشهيرة ساقتها إلى تلك الشهرة التي تعاملت معها ببساطة حتى آخر عمرها، ضربت في كلّ مجال بسهم، وكانت زهرةً وسط مشاهير جيلها، زهرةً تتعلّم كلّ يوم ممّن حولها، زهرة تتعلّم من دواخلها أيضاً، لأن بوصلتها الأساسية هي ما في داخلها أو ما هو يسوق شغفها لبقية اهتماماتها، أخيلة الداخل، وحتى توهماتها وأسئلة الروح التي شغفت بها، حتى روح المكان، وخصوصاً مدينة فاس، ولها مقال من أجمل ما كتب في هذا الكتاب، ومن أجمل يومياتها. عملت أناييس صاحبةَ مطبعة ومديرتها وعاملتها في أوّل كتابين لها، وضربت بعرض الحائط مسألة الناشر المهيمن، وعملت، في بعض الأوقات، رسّامةً وموديلاً لبعض الرسّامين. أمّا أهمية ما اكتسبته، علاوة على اهتمامها بالموسيقى والسينما، فقد كانت علاقتها بالمحلّل النفسي أوتو رانك، تلميذ فرويد، وهو من المحطّات الهامة في حياتها المعرفية، التي طوّرت بفضله مفاهيمها عن الواقع والخيال، حتى صالحتهما داخلها، وداخل أيقونة كتاباتها ويومياتها، وحتى تنظيرها الذي لا يستهان به في هذا الكتاب.

كانت أناييس نن مع ميللر في كلّ خطاياه، وعن يمينه أيضاً. كان ميللر يكتب وهو على شغف حميم بالواقع الذي لا يحيد عنه في كلّ كتبه، وكانت أناييس مع تفتح الخيال داخل ذاتها، ومع أطياف المدن كروائح وألوان وظلال وتاريخ مندثر، فقد كانت تهوى رؤية معارك القرون في التواريخ، وفي المدن القديمة، كما لامست ذلك بشاعرية وفيض نور، كما في مدينة فاس؛ كان ميللر يحب المدن عارية البهاء، كمدن اليونان مثلاً، وكانت هي أقرب إلى ظلال الشرق بنوره المخاتل وبأبوابه المواربة على أسرارها، كان ميللر لها مع زوجته أيضاً بعد ما دخلا إلى حياتها عنق محبّة، حاولت الخروج منها إلى ما هو أرحب وألطف، لا بفعل ندم على مكان، ولكن بمحبّة التجاوز والنسيان، والرفق بالماضي، وخاصّة ميللر.

كانت كأنها فيض نور عبر ما بين الأميركتين وباريس، والعالم، ووصلت ما بين الحضارتَين بشغفٍ فيه من العالم الجديد "أميركا" تحديداً، بعد ما طافت أغلب البلدان بعين أخرى وذائقة أخرى، وبطاقة الأنثى ذات الألوان والفضاءات الأكثر حميميةً ورحابةً. هي ساحرة تستدرج الواقع في كلّ كتاباتها إلى زهرة الخيال، وتسعى إلى تفتّح الذات ونورها، حتى وسط أيّ حرب أو خراب أو خلاف أو فقد عزيز أو صداقة انهار بنيانها، بوابة الذات وتفتحها هي همها، وأظن ذلك كان بعيداً جداً من الأيديولوجيات أو الانحيازات الذكورية والأنثوية معاً.

كانت تنظر إلى طاقة نور هناك، ولكنّها طاقة متجدّدة تنبع أساساً من داخل الذات، علّها رأت في فاس حلمها وواقعها معاً، وعلّها رأت في صحراء ورزازات فضاءَ يقينها فوق رمال بعيدة، كما حدث لجان جينيه، وبول باولز، وآخرين.

تصف أناييس نن، مآذن فاس في رحلتها: "تنتصب المآذن بأعداد كبيرة تقترب من الثلاثمائة مئذنة، واحدة لكل حي، تمنح حساً بالطمأنينة والسكينة وهي سمة الدين الإسلامي"، أو حينما تصف وجوه النسوة والرجال في مدينة فاس: "وجوه نساء تخفيها طبقات من الثياب أو البراقع، ووجوه رجال تخفيها البرانس، إنها حياة تنزع إلى حماية الذات الداخلية، تكمن حركتها الفعّالة في مهارة الأيادي وإبداعها المذهل... تخفي الملابس أجساد مرتديها لتظل بعيدة المنال، فيما تتركز كل اللوعة والتعبير في العينين. تتحدث العيون عن الجسد، الذات، العمر، وتنقل رسائل لا حد لها من وجودها العميق الغني"، وتختم كلامها عن فاس بشفافية الزائر الذي لا يسلّط عينيه على النقائص، بل يرى غنى الآخر بلا علوّ أو استكبار: "أتذكّر ليلة، كنت في فندق مغربي بني على غرار منزل إسباني يحيط بالفناء، يؤدي السلم فيه إلى شرفة على السطح. لم أتمكن من النوم، فتمشيّت في الأرجاء، متوجهة نحو الشرفة. سمعت ترانيم المسلمين تأتي من المسجد، بدت النجوم أكثر عدداً وأكثر قرباً كحالها في المكسيك. كانت البلدة نائمة، يغمرها اللون الأبيض، ونور القمر، أن يصلي شخصٌ من أجلنا فيما ننعم جميعاً بالنوم، يشعر المرء أنه محميٌّ على نحو غامض".

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows