
تواجه الغابات والمراعي الطبيعية في ليبيا خطراً داهماً، وسط تردّي الأوضاع الأمنية وغياب سياسات بيئية فاعلة تتصدى للاعتداءات والتغيرات المناخية وتنقذ الثروة النباتية والحيوانية للبلاد من مخاطر جمة
دقّ خبراء ناقوس الخطر بشأن تدهور أحوال المراعي الطبيعية وتراجع مساحات الغابات في ليبيا، وحذّروا من أزمة بيئية متعددة الأوجه تهدد بزوال مقومات الحياة البرية في البلاد، وتدفع بالثروة الحيوانية إلى حافة الهاوية. ونبّه المبروك المشاي، رئيس لجنة إدارة جهاز تنمية المراعي الطبيعية الحكومية، إلى أن المراعي المفتوحة في طريقها نحو الاختفاء خلال سنوات قليلة، متوقعاً تحولها إلى مشاريع مغلقة، في إشارة إلى انقراض النباتات الرعوية التي تشكل أساس بقائها. وذكر المشاي في تصريحاته أخيراً، أن الثروة الحيوانية تواجه تهديداً جراء عوامل متشابكة، أبرزها الجفاف المتواصل والتغيرات المناخية غير المسبوقة، واستمرار الرعي الجائر الذي يستنزف الغطاء النباتي، علاوة على الدمار الناتج عن أنشطة التجريف والكسارات والمصانع. وأوضح أن جهاز تنمية المراعي يعيش حالة أشبه بـ"الموت السريري" نتيجة شح الموارد المالية وعدم تزويده بالمخصصات للحفاظ على هذه الثروة الوطنية، ما أدى إلى تناقص حاد في أعداد المربّين، وتراجع كبير في قطعان الماشية، واختفاء أو تعثر السلالات المحلية الأصيلة من الأغنام والماعز والإبل، نتيجة عمليات التهجين العشوائي التي تفتقد لأي تخطيط علمي.
ويواجه مربّو الماشية عوائق أخرى تتمثل في انتشار الأوبئة والأمراض الفتاكة التي تجتاح قطعانهم من دون أن يجدوا الدعم الكافي. ومنذ ما يزيد على عامين، تعاني الحيوانات أمراضاً عديدة، مثل "الجلد العقدي" و"اللسان الأزرق" و"الحمى القلاعية"، التي تسببت في نفوق المئات من رؤوس الأبقار والماعز والأغنام، وسط نقص حاد بالمستوصفات البيطرية المجهزة، وشح في الأدوية والمستلزمات الطبية اللازمة. ويشير المشاي إلى ارتباط تدهور المراعي بشكل جوهري بتغير أنماط هطول الأمطار، موضحاً أن شبكة السقاية (الري) الخدمية تم توزيعها بناءً على معدلات أمطار جيدة كانت تُسجل قبل ثمانينيات القرن الماضي. لكن مع تناقص الأمطار وتغير خريطة التساقط، أصبحت مواقع هذه الوحدات غير مجدية لبُعدها عن مناطق الرعي وتحولت مساحاتها لتنحصر في الشريط الساحلي، ما تسبب بضغط على المناطق الخضراء المحدودة أصلاً.
ولا تقتصر الأزمة على المراعي، بل تضم الغابات التي تشكل عاملاً مساعداً في الحفاظ على المراعي ومكافحة التصحر. ففي العام الماضي، قبضت وزارة الداخلية الليبية على عصابة كانت تستغل غابات عامة في منطقة الزهراء، جنوبي غربي العاصمة طرابلس، قام أفرادها بقطع الأشجار بشكل ممنهج وجائر، وسعوا للسيطرة على الأراضي عبر تزوير وثائق ملكية.
ورغم محدودية مساحة الغابات في ليبيا، إلا أن دورها بالحفاظ على التوازن البيئي ومقاومة زحف الرمال يُعدّ حيوياً، بحسب قول الأكاديمي وأستاذ الدراسات المناخية سليمان الزحاف، الذي أكد لـ"العربي الجديد"، أن غياب السياسات البيئية الواضحة وتردّي الأوضاع الأمنية جعل الغابات هدفاً سهلاً للاعتداءات المستمرة، حيث تتعرض مساحات واسعة لاستنزاف متواصل بسبب القطع الجائر، مشيراً إلى أن الاعتداءات تهدد الغطاء النباتي، وتساهم في تعميق الأزمة البيئية، خصوصاً مع تسارع التغيرات المناخية.
في مدينة الخمس، شرق طرابلس، يكرّس إسلام بن مسعود، وهو أحد المتطوعين في حملات التشجير السنوية، جزءاً من وقته لمراقبة غابات غرب مدينته بسبب ما تتعرض له من اعتداءات مستمرة. ويوضح في حديث لـ"العربي الجديد"، أن عمليات القطع الواسعة للأشجار تهدف إلى تفحيم أخشابها لبيعها أو لإخلاء مساحات منها للبناء العشوائي.
ويضيف بن مسعود أن "كثيرا من المعتدين يتذرعون بمبررات واهية، مثل قطع الأشجار الميتة أو التالفة للاستفادة من خشبها، لكن سرعان ما يشمل القطع الأشجار السليمة، ولولا الجهود التطوعية لانخفضت مساحة الغابة بشكل كبير، وربما تم القضاء عليها". ويتحدث الأكاديمي الزحاف عن إشكالية مزدوجة، فمن ناحية تعاني الأجهزة المسؤولة عن المراعي والغابات من ضعف شديد في الإمكانات المادية والبشرية، ما يجعلها عاجزة ولا خيار أمامها سوى الشكوى، ومن ناحية أخرى تفتقر التشريعات البيئية إلى الصرامة والجدوى، ويلفت إلى أن غرامة قطع الأشجار لا تتجاوز في أفضل الأحوال 100 دينار ليبي (نحو 19 دولاراً أميركياً)، وهو مبلغ أقل من ثمن كيس فحم قد ينتج المعتدي مثله عشرة أضعاف يومياً، ولم يعد يشكل رادعاً لأن التشريع الخاص بالعقوبات في هذه الناحية لم يتم تحديثه منذ ثمانينيات القرن الماضي.
وتشكل حرائق الغابات التي استشرت في السنوات الأخيرة تهديداً إضافياً للغطاء النباتي، حيث التهمت النيران مساحات شاسعة من الأراضي في شرق البلاد وجنوبها وغربها، ما زاد الضغط على المراعي المتبقية، وألقى بظلاله على مستقبل الثروة الحيوانية. لكن الزحاف يشير إلى أن الأزمة لا تقف عند الحدود الاقتصادية، بل تهدد التوازن البيئي الهش للبلاد. ويذكر أن اختفاء المراعي وتناقص مساحات الغابات تعني ارتفاع مخاطر التصحر وزحف الرمال وتراجع التنوع البيولوجي، وهذه العوامل تؤكد ضعف قدرة النظم البيئية على التكيف مع التغير المناخي الذي بات واقعاً من خلال الفيضانات المفاجئة وهطول الأمطار في غير موسمها.

Related News


