عن البحث والتطوير والنمو الاقتصادي
Arab
3 days ago
share

لما كنا طلاباً في الجامعة اعتبرنا البحث العلمي واحداً من المحركات الأساسية للنمو والنماء. ولو نظرنا إلى منحنى إمكانات الإنتاج أو منحنى حدود الإنتاج Production Frontiers Curve، والذي يعطينا بدائل الإنتاج لو استثمرنا الموارد المتاحة في الدولة، لرأينا أن المنحنى كله سيرتفع إذا طورنا المنتجات وأسلوب صنعها وحسّنّا إدارة الموارد الطبيعية والبشرية وطرق التسويق.

وبمعنى آخر فإن كمية الموارد نفسها يمكن استخدامها لإنتاج كميات أكبر إن دخل البحث والتطوير والتجديد على واحد أو أكثر من العناصر التالية، أولاً: اكتشاف مواد خام أو مدخلات جديدة، وثانياً: اكتشاف وسائل تصنيع جديدة، وثالثاً: اكتشاف وسائل إدارية جديدة، ورابعاً: اكتشاف وسائل تسويقية جديدة وهذا ما سماه جوزف شمبيتر التجديد أو Innovation.

ودارت بي الأيام، وصرت رئيساً للجمعية العلمية الملكية في الأردن عام 1986 والتي تعمل برعاية الأمير الحسن بن طلال منذ إنشائها عام 1970. وقد صممت لتكون مستقطبة للكفاءات العلمية والهندسية المطلوبة لجعل الجمعية مركز بحث وتطوير للصناعات الأردنية. وساهمت الجمعية في كثير من الأمور في الأردن، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، إدخال كمبيوتر مركزي (Main frame). والذي وجد فيه الباحثون في علوم الحاسوب ضالتهم.

وكذلك أدخلت الجمعية بحوث الطاقة المتجددة (الشمسية والرياح) وتمكنت من بناء عدد من الوحدات المختلطة بين طواحين الهواء والألواح الشمسية، ثم انتقلت بعدها إلى أن تدخل مع ألمانيا في مجال فحص وتطوير الخلايا الشمسية وزيادة فعاليتها. ونشأت في الأردن بعدها صناعة السخانات وصناعة الخلايا الشمسية لتوفير الكهرباء لكثير من المؤسسات التي كانت تعاني ارتفاع فاتورة الكهرباء.

وكذلك ساهمت الجمعية في فحوصات المياه والتربة وفي قياس مقادير تلوث الهواء. وتابعت حادثة تسرب الإشعاع من المفاعل رقم 4 في تشرنوبل في 26 من شهر إبريل/ نيسان 1986واستخدمت وسائل من أجل مراقبة الإشعاع الذي وصل إلى الأردن حيث قامت الجمعية بأداء عمل متميز.

وأنشئت في الجمعية دائرة اقتصادية كانت تقدم أبحاثاً جيدة، ولكن أهمها هي المذكرة التي قدمت لكبار المسؤولين عام 1988 عن احتمال هبوط سعر صرف الدينار الأردني، والذي حصل وأدى إلى أزمة اقتصادية عميقة في الأردن وسبقت مفاوضات السلام التي بدأت عام 1991. وقد قدمت الجمعية خدمات متميزة في مجال بحوث البناء وسعت لدراسة جدوى لحوالي خمسين مادة سمادية وكيماوية معتمدة مع الفوسفات والبوتاس في سعي منها لتنويع استخدامات هاتين المادتين، وتعميق الاستثمار فيهما ورفع القيمة المضافة لحساب الناتج المحلي الإجمالي.

كل هذه القضايا أعيد طرحها في ثلاث جلسات سمان في مؤتمر عقد بعمان تحت رعاية الأمير الحسن بن طلال بعنوان "واقع البحث العلمي وأثره على الاقتصاد الأردني". ولعل ما يهمنا هو الجلسات الثلاث الأولى، والتي قدم فيها الأمير الحسن أفكاره حول البحث والتطوير وأولوياته. وتحسين أدواته وضرورة التشبيك الأفقي بين المؤسسات العلمية والتعليمية (الجامعات) داخل الأردن ومع المؤسسات المتطور منها في العالم العربي أو الدولي.

أما جلسة العمل الأولى فقد شهدت رؤساء الجامعة الأردنية وجامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية وجامعة الأميرة سمية والجامعة الألمانية الأردنية وجامعة الحسين للتقنية. وقد قدم كل رئيس جامعة وجهة نظره في البحوث المطلوبة وأسلوب تطويرها، وإن استغرق جزء مهم من هذه الجلسة في الحديث عن طبيعة الأبحاث التي ينهض بها أساتذة الجامعات بهدف النشر في المجلات المرموقة وليس بهدف تطوير قدرات الاقتصاد الوطني.

واشتكى البعض من أن الذكاء الاصطناعي قد فتح المجال للاقتباس غير المشروع في بعض البحوث مما يتطلب إطاراً تنظيمياً واضحاً. أما جلسة العمل الثانية فقد مثلت جانب الطلب على البحث والتطوير ممثلاً في الصناعات الأساسية والتنظيمات الممثلة للقطاع الخاص، مثل المدير التنفيذي لشركة مناجم الفوسفات، ونائب الرئيس التنفيذي لشركة البوتاس العربية، ومدير عام غرفة صناعة عمان، ورئيسة الأنشطة التنظيمية في شركة الحكمة للأدوية، ورئيس برنامج "صنع في الأردن".

وسعى هؤلاء لإبراز المنجزات التي حققوها في مجال البحث والتطوير، وأدت إلى تحسين أداء شركاتهم أو دافعوا عن أنفسهم في اختيار الأبحاث بأن كثيراً من الباحثين لا يعرفون كيف يخاطبون القطاع الخاص لإقناعه بالمساهمة في تمويل مشاريع البحث والتطوير. وهكذا اكتملت الحلقة بوجود الجهات الثلاث المطلوب تعاونها وتعاضدها لجعل البحث والتطوير جزءاً صميماً من عمليات الإنتاج السلعي والخدمي في الأردن. وقد وجِد جانب العرض للأبحاث والدراسات ممثلاً بالمجلس الأعلى للعلوم والتكنولوجيا والجمعية الملكية والجامعات التقنية بوجه خاص.

وتمثل جانب الطلب من ناحية أخرى على الدراسات بوجود الصناعات الكبرى التي حققت إنجازات عن طريق تعميق دور البحث والتطوير، وهي الفوسفات والبوتاس وأدوية الحكمة ومؤسسة "صنع في الأردن"، وغرفة الصناعة بشكل عام. أما الجانب الواضع للسياسات والتطورات والعنصر المدافع عن البحث والتطوير والساعي لتوفير التمويل اللازم له والمشبك بين المؤسسات وطنياً وعربياً ودولياً، فيمثله المجلس الأعلى للعلوم والتكنولوجيا برئاسة الأمير الحسن. وحضر اللقاء عدد من الوزراء والمسؤولين وعدد من الباحثين والصناعيين والمهتمين.

ولكن حكمة الأمير الحسن، خاصة في هذا المجال الذي أمضى فيه حتى الآن 55 عاماً بدون انقطاع هي التي أعطت الدفعة المطلوبة. والسبب أن الملك عبد الله الثاني قد قبل بتوصية وزير تطوير القطاع العام وقرر تحويل صندوق دعم الأبحاث التابع لوزارة التعليم العالي إلى المجلس الأعلى للعلوم والتكنولوجيا. وهذه النقلة لم تأت إرضاء للأمير الحسن، وإنما لقناعة الملك عبد الله الثاني بأن الدعم يجب أن لا يوجه إلى البحوث القابلة للنشر فقط، بل الأهم إلى تلك التي تساهم في تطوير الصناعة أو حل مشكلاتها وبهذا تساهم الأبحاث مباشرة في الإنتاج.

والأمر الثاني الذي ركز عليه الأمير الحسن يتعلق بأولويات البحث العلمي في الأردن، وقد أكد في مداخلته القوية أن البحث يجب أن يكون متعدد العلوم (Interdisciplinary) من حيث المدخل ومتعدد القطاعات (Intersectoral)، من حيث التأييد أو التأثير (Impact). وقال إن القطاعات التي يرى لها أولوية قصوى هي المياه والطاقة والبيئة، وإن النظر إلى هذه القطاعات الثلاثة بوصفها عنقوداً واحداً أجدى من دراسة كل واحد منها على حدة.

وهكذا يكون الأمير الحسن قد أكد ضرورة تداخل العلوم والمعارف عند الدراسة والتحليل، وعلى النظر إلى عدد من القطاعات المتداخلة عند استخلاص النتائج والتطبيق والتوصيات. ودعا البعض من الحضور إلى ضرورة خلق مدينة علمية في الأردن تكون الجامعات ومراكز البحوث مكوناتها الأساسية. والبحوث فيها مركزة على تحسين الإنتاج وتطويره. وطالب الأمير الشركات الكبرى بأن تتعاون فيما بينها، وأن تمد المسؤولين في المدينة العلمية بحاجاتها من الأبحاث والدراسات من أجل تعميق الإنتاج وتنويعه وجعله أكثر منافسة. ولم ينس أن يذكر الحاضرين بأهمية إعداد القوى البشرية المدربة والكفؤة والقادرة على البحث والتطبيق.

وقد بدا واضحاً أن رؤساء الجامعات لهم رأيان؛ الأول يركز على النشر لأن هذا يأتي في صميم عمل الجامعات التي تريد أن ترى أساتذتها يساهمون ليس فقط في البحوث القابلة للتطبيق وإنما في البحوث النظرية التي تفتح الآفاق على ثغور جديدة لفهمها لقوانين الكون وآلية عملها. وقال بعضهم إن الجامعات قادرة بطلب من الزبائن المحتملين أن تنجز بحوثاً لصالح العملاء الذين يحددون الهدف من البحث.

ولكن الجامعات لا تستطيع ذلك ما دام أن مهمتها التعليم، لأن ذلك يقف حائلاً دون البحوث النظرية أو تلك بعيدة المدى. أما القسم الآخر من رؤساء الجامعات فقد كانوا أميل إلى البحوث العلمية الموجهة إلى حاجات معينة محددة. وأن الأبحاث النظرية طويلة المدى غالية الثمن وعالية الكلفة، ولا توجد الإمكانات المالية القادرة على إنتاجها بالشراكة مع باحثين أو مراكز أبحاث غنية. وقالوا إن الأولوية يجب أن تركز على جعل الصناعات أكثر استيعاباً للقوى العاملة الوطنية من أجل التصدي للبطالة خاصة بين الشباب.

وطالب بعض الحاضرين بضرورة إجراء بحوث اجتماعية تتصدى لمظاهر العنف الشبابي الناجم عن مؤثرات خارجية، مثل المخدرات أو الأفكار المتطرفة الرومانسية أو الأمراض النفسية الناجمة عن التسارع الكبير في تغيير وسائل الحياة وأنماطها التي تعوّدها الشباب أو التأثر بثقافات غريبة عن الوطن العربي. البحث العلمي والتطوير والتدريب لم تعد مجرد رفاهيات، بل هي داخلة في الجوف الأعمق لصلب الحياة ومؤسساتها وكثرة التغيير وغياب القوانين يقلق الشباب، ويجعلهم أكثر حساسية وعرضة لمؤثرات سلبية خارجية.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows