كلّما ارتديت وزرتي وباشرت مناوبتي، شعرت أنني دخلت منطقة حدودية رفيعة جداً تفصل بين الموت والحياة، منطقة لا يُتاح لي فيها ترف الإنكار، فأصبح بذلك شاهدة على وداعات مؤجّلة، على كلماتٍ مكتومة، على دعوات هامسة، وعلى آمال لم تجد مُتسعًا من الوقت لتحقيقها.
قد يبدو تعوّد الموت أمراً سهل الاكتساب عند الأطباء والممرضين، من يعايشونه من خلال عملهم اليومي داخل المستشفيات وغرف الإنعاش. إلا أن تجربتي الشخصية تُذكرني دوماً بقول جاك شورون: "على الرغم من أن الإنسان قد يدرك تفاهته، لكن التفكير في الفناء أمر يصعب تحمله"، وتؤكد لي أن لا أحد يعتاد الموت. نعم قد يتكيّف المرء مع التجربة، لكنه لم ولن يستسيغها بوصفها حقيقةً ثابتة ومُطلقة.
طيلة عملي كنت على موعد دائم مع الموت، عايشته مرات لا تُعدّ ولا تحصى، رأيت عيونًا تتسع ثم تنطفئ، سمعت أنين حشرجات أخيرة، لامست أجسادًا تبرد وتتصلّب. وعلى الرغم من كثرة التجارب، فإنّ كلّ تجربة لم تكن تشبه مثيلاتها، كأنّ الموت تجربة فردانية، تُفصّل مقاساتها لكلّ شخص على حدة. هذا البعد الفرداني للموت الذي كنت أواجهه، كلّ مرة، داخل عملي فتح عيني على خبايا لم أكن لأدركها لولا احتكاكي بها. فكلمة "الموت" قبل عملي، كانت تعود بي إلى تجارب مريرة، تذوّقت طعمها في طفولتي، بدءًا بموت جدتي الذي خلّف لي أثرًا عميقًا في نفسي رغم صغر سني. فالموت في تلك الفترة لم يكن مفهومًا ناضجًا ومُكتملًا في ذهني، كان مفهومًا يقترن بالحزن والأسى والوحشة، على خلاف اليوم، إذ أضحى حمالًا لعدّة أوجه؛ تارة أرى فيه الانعتاق والرحمة حين يأتي ليوقف معاناة طويلة مع الألم، وتارة أرى فيه العدالة الكونية حين يواجه جميع الناس على اختلاف مقاماتهم ومكاناتهم، وتارة أرى فيه ضعف الكائن البشري حين لا يجيب عن تساؤلاته مهما بلغ ذلك الإنسان من العلم والمعرفة.
مجرد التفكير في النهاية يجعل كلّ ما قبلها جديراً بالعيش والحضور
إنّ أكثر ما يخيفني في الموت ليس تلك اللحظة التي يُفترض أنها تمثّل نهايتنا، لأنني لا أراه لحظة مُنفصلة أو فجائية، بل أراه صيرورة ممتدّة، حركة بطيئة وغير مرئية تتسلّل عبر الزمان والمكان، حتى تصير في النهاية واقعًا لا رجعة فيه. الموت ليس صدمة اللحظة، بل هو تراكم الغياب، وتسلّل الفقد، وانسحاب الحياة من تفاصيلنا اليومية بشكل خفيّ ومتدرج. لذلك، لا يكمن الرعب الحقيقي في لحظة التوقف الأخيرة، بل في حصيلة الحياة ذاتها، في كلّ ما لم يُعش كما ينبغي أن يُعاش، في الأيّام التي مرّت باردةً باهتة، من دون أن نمنحها حرارة الوجود الحقيقي.
إن أكثر ما يُقلقني هو مجموع الكلمات التي بقيت حبيسة الصمت، تلك التي كان من المُمكن أن تواسي، أو تصالح، أو تبني، ولكننا تركناها معلّقة في حنجرتنا، خوفًا أو كبرياءَ أو خجلًا. إنّ أكثر ما يحزّ في النفس هو تلك المشاعر التي لم نجد الجرأة لنكشف عنها، ذلك الحبّ الذي لم يُعترف به، ذلك الشوق الذي كُبت، وذلك الغضب الذي تراكم من دون أن يُفهم أو يُشرح. ثم هناك اللقاءات التي أجلناها مرارًا، ظنًّا منا أنّ هناك دائمًا وقتًا لاحقًا، وأنّ الحياة ستمنحنا فرصًا أخرى، من دون أن ننتبه إلى أنّ الوقت لا ينتظر أحدًا.
ثم تأتي الوعود التي قطعناها، لأنفسنا أو للآخرين، ولم نَفِ بها. تلك الوعود الصغيرة التي بدت في حينها غير مهمة، لكنها في عمقها كانت تحمل إمكانية تغيير أشياء كثيرة، وربما إنقاذ علاقات أو بناء جسور كان يمكن أن تبقى معنا حتى النهاية.
الإنسان، حتى في لحظة ضعفه القصوى، يملك كرامته الداخلية، وحريته في أن يمنح لما يعيشه معنى
ومن هنا كنت دائمًا أصل إلى قناعة متجدّدة: أنّ عدد السنوات التي نحياها لا يعبّر أبدًا عن عمق الحياة التي نعيشها. فالحياة لا تُقاس بطولها، بل بكثافة لحظاتها، بامتلاء الوقت لا بامتداده، بجودة العيش لا بكمّه. اللحظة التي تُعاش بصدق، بحضور كامل، بحساسية شديدة للآن، تلك وحدها تستحق أن تُحسب ضمن حياة الإنسان.
عديدة هي تلك الأسئلة التي تجتاحني بعد كلّ موت مريض: كيف يبدو الموت حقا؟ كيف يتم اختيار وقت الموت؟ لِم يموت بعض المرضى بسرعة ويموت آخرون ببطء؟ لم تنجح تدخلات الإنعاش عند البعض وتفشل عند الآخرين رغم أنّ التدخل يكون مماثلًا عند الجميع تقريبًا؟
للأسف، كلّ الكتب والعلوم الفيزيولوجية والطبية التي درسناها لم تكن قادرة على الإجابة عن كلّ هذه التساؤلات. خلال تكويننا كان يُعرَّف الموت عادةً بأنه توقف لا رجعة فيه للوظائف الحيوية الأساسية: توقّف القلب والدورة الدموية، توقّف التنفس، توقّف نشاط الدماغ (ما يُعرف بالموت الدماغي).
داخل غرف الإنعاش وبأقسام العناية المركّزة لطالما أرعبني اختصار الموت في اعتباره مجرّد "حالة سريرية"، تعرَّف بمجموعة من المؤشّرات الحيوية، وتُعلَن بتقرير بارد يبدأ غالبا "الوفاة على الساعة كذا وكذا". لقد كنّا من دون قصد، وتحت ضغط الحالات الطارئة المُتتالية نَختزل المريض في أرقام جامدة (معدل الأكسجين، معدل النبض، معدل الضغط الدموي…) وننسى أن ما يحتضر أمامنا إنسان أحبّ، تألم، ابتهج، بكى، خاف أيضًا.
المريض ليس بالضرورة مشروع شفاء، بل يجب أن يكون مشروع معنى أيضاً
لقد كنت مدركة تمام الإدراك أنّ الأجهزة التي نعمل بها على تطوّرها، وخطاطات التدخل العلمية على دقّتها، لم تكن كفيلة بأن توصلنا إلى جوهر هذه التجربة الوجودية الحتمية. إنّ تجاوز النظر إلى الموت أنه حدث ميكانيكي بحت، والتأمّل في تفاصيل تجربته يفضحنا بوجه مكشوف أمام هشاشتنا ويدعونا إلى التفكير مليًّا في المعنى الذي نلهث وراءه منذ صرختنا الأولى.
إنّ الموت على الرغم من بشاعته يبقى الشرط الأساسي للمعنى في حياتنا، إذ إنّ مجرّد التفكير في النهاية يجعل كلّ ما قبلها جديرًا بالعيش والحضور. في هذا الصدد تظهر تجربة الدكتور فيكتور فرانكل التي أشرت لها في مقال سابق لي بعنوان "الإنسان والبحث عن المعنى" تجربةً فريدةً من نوعها تذكّرنا بما هو أعمق: أنّ الإنسان يمكنه أن يجد معنى في الموت، كما في الحياة.
فيكتور فرانكل، مؤسّس التحليل الوجودي ومبتكر العلاج بالمعنى (logothérapie)، قضى ثلاث سنوات في معسكرات الاعتقال النازية، وشهد الفقد، والذل، والانهيار الإنساني الكامل، لكنه خرج من هذه المحنة وهو يحمل أطروحة غير عادية: "المعاناة، وحتى الموت، لا يسلبان الإنسان إنسانيته، ما دام يحتفظ بقدرته على اختيار المعنى".
في كتابه الشهير "الإنسان يبحث عن المعنى"، يروي كيف أنّ بعض السجناء ظلّوا يحتفظون بكرامتهم رغم الجوع والبرد والإهانة، فقط لأنهم كانوا يؤمنون أنّ لحياتهم (وربما لموتهم) غاية أسمى.
لقد تعلّمتُ من فيكتور فرانكل أن الإنسان، حتى في لحظة ضعفه القصوى، يملك كرامته الداخلية، وحريته في أن يمنح لما يعيشه معنى. قد لا نملك نحن الذين نتعامل مع عشرات الحالات المُماثلة القدرة على خلق المعنى لدى المريض أو حتى التحكّم في مصير محتوم، لكننا قادرون على المساهمة بشكل غير مباشر في ولادة معنى قد تختصره كلمة، ابتسامة أو حتى نظرة إنصات. لقد لقنونا طيلة مسارنا الدراسي والمهني، أنّ البطولة المهنية تُقاس بعدد المرضى الذين تماثلوا للشفاء أو تم إنقاذهم، وإن بدا هذا المقياس مشروعًا فإنّه يجب أن لا يخفي أنّ بطولة أخرى خفية تُقاس بعدد وجودة اللحظات التي نرافق فيها إنسانًا يلفظ آخر أنفاسه.
لقد رأيتهم هناك حين يفلتون من الحياة، حين يتمسّكون بها بعيون مبلّلة ووداعات هادئة، لقد رأيتهم هناك عاجزين بين الأجهزة، غير قادرين على التعبير، صامتين ينتظرون مجهولًا اقتربت ساعة مواجهته الحتمية. لقد أدركت حينها أنني لا أتعامل مع أجساد تحتاج إلى تدخلات طبية فقط، وإنما كائنات بشرية تمرّ بأكثر لحظات وجودها هشاشةً وضعفاً. ما لا نعرفه للأسف أنّه في خضم هذه اللحظات الأخيرة للمريض وسط الآلات، والأنابيب، وصوت الأجهزة المتكرّر، هناك مساحة غير مرئية لا تلتقطها الشاشات، ولا تُسجّل في الملفات الطبية. مساحة يروقني تسميتها بالحضور الإنساني، حضور لا يُقاس بالخفّة والمهارة في تقديم العلاج، بل بالاعتراف والاحترام الحقيقي لوجود الآخر، خاصة إن كان هذا الوجود مهدّدًا بالفناء.
إنّ أفضل استنتاج استطعت الخروج به في خلال عملي داخل أقسام الطوارئ والإنعاش أنّ المريض ليس بالضرورة مشروع شفاء، بل يجب أن يكون مشروع معنى أيضاً، وأنّ الحضور في مثل هذه التجارب لا يعني فقط الوجود الجسدي، بل يعني أن أُبقي على جزء من إنسانيتي حيًّا، رغم ضغط العمل، وأن أُقاوم التبلّد الذي يتسلّل إلينا كآلية دفاع، وأن أُذكّر نفسي والآخرين أنّ العناية لا تكتمل من دون رأفة ودفء إنساني.
Related News

