
عادت المنظومة الإعلامية الجزائرية، في الأشهر الأخيرة، لتحتل مكاناً مركزياً في نقاشٍ ما يكاد أن ينتهي حتّى ينطلق مجدّداً، بالنظر إلى الانتظارات الكبيرة والعديدة التي يعبر عنها، على حد سواء، مهنيو القطاع ومستهلكو المضامين الإعلامية. وإذا كان هناك فضل يحسب للوزير الحالي للاتصال، محمد مزيان، فيكمن في أنه أطلق العنان لهذا النقاش، الذي كان حبيس قاعات التحرير، ليخرج إلى العلن، طارحاً بذلك شلالات من الأسئلة المتعلقة بمستقبل القطاع والمنتظر منه لمواجهة الهجمة الإعلامية غير المسبوقة والموجهة ضدّ البلاد.
لم يتوان الوزير، سواء في تصريحاته أو لقاءاته مع فواعل إعلامية عديدة، أو خلال إطلالاته الميدانية، عن إثارة السؤال، للبحث عن الأجوبة الآنية واللازمة للتكفّل بهذه الانشغالات، التي يجب الاعتراف بكثرتها وتشابكها، لأنّها تراكمت مع مرور الوقت، من دون أن تؤخذ المأخذ الجادّ الذي يليق بها. وبذلك، يبدأ التغيير المنشود في المشهد الإعلامي الوطني بالوقوف أمام مكامن الاختلالات، وهو المسعى الذي بادرت إليه الدائرة الوزارية المعنية منذ نحو ستة أشهر. وهذا ما فعله الوزير، وهو على رأس قطاع شديد الحساسية، بالنظر إلى مشكلاته المعقدة، والذي تتخلّله مطبّات تعرقل السير به نحو أهدافٍ تلوح من بعيد، لكنّها تنفلت بمجرّد أن تقترب منها. والسؤال في هذا السياق، يدور حول الفكرة التي اهتدى إليها مزيان، وكيف ينظر إلى الوضع العام الحالي للمهنة، والتجاذبات المتكرّرة والمستعصية التي تراكمت مع مرور الوقت، ولم يجرِ النظر إليها في السابق بوصفها أولوية. وتبعاً لذلك، من المنطقي التساؤل كذلك بشأن النموذج الإعلامي الذي خلص إليه، والمقاربة التي يتوخّاها من أجل إحداث النقلة النوعية المرجوّة، التي لا مناص عنها.
سبقت الوزير مزيان، في إدارة القطاع شخصياتٌ عدّة، جيء بها تقريباً من عرين الإعلام والثقافة، يعني، بالمختصر المفيد، أن معظمها تعرف بالضبط ما يحدُث في داخله. نجحت بعض هذه الشخصيات وأخفقت أخرى في مهمّة المعركة الإعلامية، ولكن العجز بقي في مواكبة التغييرات الحاصلة، وهي السمة العامة التي تطبع المشهد، وهذا ما يفسّر شعور مهنيي القطاع بالإخفاق في مهامهم، وهو الشعور الطاغي عموماً.
ويبدو أن كثيرين لا يكترثون لمسألة نوعية المنتوج الإعلامي، بقدر شغفهم بالغرف الفاحش من الوعاء الإشهاري (الإعلاني)، الذي تحظى فيه المؤسّسات الاقتصادية العمومية بحصة الأسد. والحالة هذه تفرض على الدائرة الوزارية المختصّة الإجابة على سؤال محوري آخر: ما هو النموذج الاقتصادي الذي على المؤسّسة الإعلامية انتهاجه، لإعادة تأهيلها وجعلها تكتسب أسباب القوة والديمومة؟
الرقابة الذاتية إحدى محن الإعلامي، وهي مسألة أخرى يطبعها التعقيد، ولا يمكن معالجتها بقرار فوقي
لا يمكن اليوم نكران حقيقة أنّ الجسد الإعلامي أضحى معلولاً، ولا يرى المسؤولون عليه الحلّ إلّا في صفحات الإشهار. وهنا يتداركنا واقعٌ مرٌّ يجب الاعتراف به: فبالرغم من المبالغ التي جرى "احتساؤها" منذ سنين، هناك ممن ما زالوا، رغم ما رصدته لهم الدولة من أموال ضخمة بلا حسيب ولا رقيب، يعانون ويطرقون الأبواب. ولو سألت أي أحدٍ منهم: ماذا فعلتم بالأموال السيّالة التي استفدتم منها؟ هل كوّنتم بها أجيالاً جديدة يمكن أن تفخر بهم الجزائر في "الروبورتاج"، في التحقيقات الكبرى، في الحوارات، في مقالات الرأي؟ هل طوَّرتم في بنية مؤسّساتكم معنى ومبنى؟ هل نوّعتم في مصادر دخلكم؟ ثم أين هي المؤسّسة الإعلامية القادرة اليوم على منافسة أكبر المؤسّسات في العالم؟
بعض هذه الأسئلة (وهي غيضٌ من فيض) تقريباً الوحيدة التي كان على هؤلاء الإجابة عليها قبل لوم الدولة على مسائل أخرى تتعلق بالإعلام، وأقصد بها حرّية الرأي والمتتاليات التي تلتصق بها... وفي سياق أكثر وضوحاً وصراحة، وحتّى عناداً، كان على هؤلاء من مواقعهم صنّاعَ رأي، كما يبدو، أن يعمَدوا إلى مراجعة كامل مساراتهم منذ عهد الانفتاح الإعلامي في الجزائر... ماذا تمَّ حقيقةً تقديمُه للجزائر؟
من الواضح أن المقاربة التي قد يهتدي إليها الوزير محمد مزيان، بالنظر إلى ما بادر إليه منذ بضعة أشهر، لا يمكن اختزالها في صفحة إشهار (إعلان)، كما أريد لها، وإنما تتعدّى ذلك بكثير، لتطرح مسائل استراتيجية مرتبطة بأمن الدولة والدفاع عن الانسجام الاجتماعي وقدرة المنظومة الإعلامية الوطنية على الردّ الناجع على الهجمات الإعلامية المعادية والمتتالية.
الجسد الإعلامي في الجزائر أضحى معلولاً، ولا يرى المسؤولون عليه الحلّ إلّا في صفحات الإشهار
وهنا تجب الإشارة إلى أنه عندما نتحدّث عن معركة الإعلام، نعني بها معركة مفخّخة بمفاجآت كثيرة، وتُدار رحاها في وسائل إعلام عالمية، مضافاً إليها وسائل تواصل أخرى مخيفة ومرعبة، تتعاظم في قلب هواتفنا، وشاشات تلفزيوناتنا، وفي أجهزة الكمبيوتر لدينا. وهي معركة قاسية وممتعة في آنٍ، تُشن ضدّنا. والنبيه والذكي والماكر، هو من يعرف كيف يَفتح فيها خيالها واسعاً، ويدخل معمعانها بقوة تُربك الخصوم والأعداء، ويتألق من دون أن تهوي به في سفاسف الأحداث، فيكون مجرّد رجع صدى لها. نجيّش جيوشنا وأذرعنا لنربح، ثم نختفي وهم ينظرون إلينا بحيرة ماذا فعلتم بنا. نُعلّمهم أننا نصيب ونؤلم، وأننا نتقدّم في خرائط التحولات بوعي شقي، لكنّه منتبه، وأننا لسنا في هوامش حربٍ كبرى، بل في عمقها.
هذه هي، أعتقد، المعركة التي تشغل بال الوزير محمد مزيان، وكثيرين من صناّع القرار في الجزائر... النظر إلى الإعلام في أفق أوسع وأرحب. التموقع في خطوط متقدمة، وتحرير المبادرات الخلاقة، وفكّ الارتباط مع أسياد التفاهة والرداءة المسترخية في الاعلام... ونبذ فكرة الخوف والرعب الذي يلازم أصحاب الرأي المختلف لكنْ المؤسّس والمتقن والرصين، ثُم وضعه في صميم التغيّرات التي تتشكّل بسرعة وفعالية في واجهة المستقبل القادم المزمجر بقوته الناعمة.
أقمت، قبل أيام، برفقة الروائي أحميدة عياشي، ندوة نقاش حرّ عن كتابي "زمن العسكر"، ودعوتُ وسائل الإعلام إليها... انتظرنا المنع والقمع والمساءلة والتحقيق... لم يحدُث شيءٌ من هذا، بل حدث وأن مارست وسيلتان إعلاميتان، واحدة رسمية وأخرى خاصة، الرقابة على التغطيتَين اللتين كتبهما صحفياهما، باركت السلطة بطريقتها الندوة، وخاف منها من أعتقدنا أنهم مشغولون بحرّية الرأي، وتلك مفارقة محيّرة يجب أن تنمحي كي نتغيّر ونتقدّم في الجزائر.
تكمن محنة الإعلامي كذلك في الرقابة الذاتية، وهي مسألة أخرى يطبعها التعقيد، ولا يمكن معالجتها بقرار فوقي.

Related News

