
يجب أن نعترف بأننا نفارق الموضوعية في تعاملنا مع التقارير والآراء الأجنبية، فإذا كانت تلك مما يمكن تصنيفه إيجابياً، نتداوله لتثبيت وجهات نظرنا وتأكيدها، وإن كان غير ذلك ففي الغالب نتجاهل أهمية الكاتب وأثر المقالة أو نقلل منهما. ... فكرت بهذا وأنا أقرأ منشوراً مهمّاً للكاتب الأميركي المتعمّق في الشأن السوداني كاميرون هدسون، بعكس منشورات سابقة له كان ينتقد فيها ما كان يعرف قبل تمرّده على الدولة بـ"الدعم السريع"، فإن ذلك الرأي، الذي أدلى به على منصّة "إكس" قبل أيام لم يلقَ الصدى اللازم، وفيه تعليق على التقارير الإسرائيلية التي تربط بين السودان ممثلاً في قيادته العسكرية الحالية، برئاسة رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان، وإيران. ... يرى هدسون أن تلك التقارير تهدف إلى جر الرئيس دونالد ترامب إلى التدخل في السودان، وأنها محاولة يقوم بها "الدعم السريع" وحلفاؤه الخارجيون.
يعيد هذا الأمر إلى الأذهان عدة استراتيجيات اتّبعتها المليشيا بقيادة الجنرال المنشقّ محمد حمدان دقلو (حميدتي) منذ بداية حربها ضد الدولة، حيث كان خطابها يركّز على أنها في حالة حرب ضد الإسلاميين المتطرّفين، كما أن قادتها لم يتوقفوا عن تشبيه حربهم بالنضال الإسرائيلي ضد القوى المتشدّدة.
كان حميدتي ومتحدّثوه الإعلاميون يتحدثون بكثافة عن "الإرهابيين" الذين يقاتلون مع الجيش، كما كانوا ينتهزون فرصة قيام أي منسوب للجيش أو أي فرد من المتطوعين، الذين كانوا يقاتلون إلى صفه، بأي عملٍ فيه عنف أو انتقام، للتأكيد على هذا. وكانوا يلجأون أحياناً إلى فبركة أخبار عن انتهاكات أو عن وجود مقاتلين أجانب، وهو ما حدث في قصة أحد الشبّان، الذي جرى تصويره مرتزقاً أجنبياً، قبل أن يخرج بنفسه للإعلام، موضحاً أنه سوداني لا يتميّز إلا بلون فاتح.
للأسف، لم يجر التعامل مع هذه الدعاية بالشكل المطلوب، وجرى تصوير ما كانت تصر الماكينة الدعائية للمليشيا على تأكيده والطرق عليه، وكأنه مجرّد هذيان مضحك، لكن الحقيقة أن المليشيا لم تكن تفعل ذلك عبثاً، وكانت تعرف أن رسالتها تلك سوف تجلب لها تعاطفاً واسعاً، خاصة في الغرب، الذي سبق له، في سبيل سعيه إلى تطويق "الإرهاب"، تدريب جماعات أكثر فتكاً وإجراماً وتمويلها.
يجري تصوير البرهان وكيلاً لإيران وأداة بيد القوى الإسلامية الراديكالية وهذا خطير
في التقارير، التي يشير إليها هدسون، يجري تصوير قائد الجيش، البرهان، وكيلاً لإيران وأداة بيد القوى الإسلامية الراديكالية، وهذا خطير بالنظر إلى الوضع الإقليمي الذي عمل فيه الغرب وذراعه المحلي خلال العامين الماضيين على إضعاف إيران، وصولاً إلى ضربها بشكل مكثف ومباشر، والعمل على تجريدها من عوامل قوتها. تزداد الخطورة حين نأخذ بالاعتبار منطق الحرب الإسرائيلي، الذي يرى أنه لا يمكن التركيز على ضرب العدو في مكان وتركه يتنفّس بحرية في مكان آخر، وهو ما جرى اتباعه في ما حدث من تفكيك لحزب الله اللبناني وإضعاف لحركة حماس الفلسطينية.
تتحدث التقارير عن الإسلاميين المحيطين بالقيادة في السودان، مرتبطين بإيران أم لا، فإن وجود إسلاميين في أو بالقرب من مركز صنع القرار العسكري في بلد ذي موقع استراتيجي مهم كالسودان، يشكّل مصدر قلق وخطورة، ليس فقط للكيان، الذي يخشى من صلات ممكنة بين هؤلاء والمقاومين في فلسطين ولبنان، كما كان يحدُث بالفعل في أوقات سابقة، وإنما حتى للغرب ولقوى إقليمية ومجاورة.
ولكن لماذا لم يجر تسليط الضوء المناسب على تنبيه كاميرون هدسون، الذي حذّر فيه من أن هذه التقارير السلبية، التي تُضعف صورة الجيش السوداني وتشوّش على قضيته، باتت تجد أذناً صاغية واهتماماً في وسائل الإعلام ومراكز التأثير الأميركية؟ ... يعود هذا إلى عدة أسباب، منها أن أغلب السودانيين لا يتعاملون مع الأمر بالجدّية الكافية، فتبدو لهم اتهامات مليشيا حميدتي، التي ولغت في دماء المواطنين واستباحت أموالهم وأعراضهم مرتكبة فظائع فريدة من نوعها في تاريخ السودان الحديث، لأي جهة أخرى بالإرهاب مصدراً للسخرية ومفارقة هي أقرب إلى نكتة غير مضحكة.
العالم لا ينظر إلى الأمور بمنظارنا، وما نتصوّر أنه بديهي هو ليس في كل الأحوال كذلك
هنا يجب أن نذكّر أنفسنا بأن العالم لا ينظر إلى الأمور بمنظارنا، وما نتصوّر أنه بديهي هو ليس في كل الأحوال كذلك، كما أن المسألة الأخلاقية ليست هي التي تحرّك ردات الفعل الدولية، وليس أدلّ على ذلك من التطوّرات على الساحة الفلسطينية.
سبب آخر كثيراً ما يقود إلى تجاهل ما يصدُر في العالم الغربي من تقارير وقرارات، وهو قناعة سودانيين كثيرين بأن حسم الأزمة في الداخل كفيلٌ بأن يخرس أصوات الناقدين، بل تبني جهاتٌ خطابها على ضرورة المضي في طريق مقاومة العدوان وعدم الالتفات إلى أي شيء يأتي من الخارج. وربما يكون السبب وراء هذا الثقة في أن الجيش يقف في الموقف الصحيح، والظن أن هذا مبرّر كافٍ لتجاهل أي منشور سلبي. يعيد هذا المنطق البسيط إلى الأذهان ما حدث في تجربة اتهامات الرئيس السابق عمر البشير، التي دفعت البلاد في مقابلها كلفة سياسية ودبلوماسية باهظة. ما حدث آنذاك أن النخبة السياسية، التي كان يفترض أن تعمل على صد الاتهام قبل أن يتحوّل إلى قرار أممي، كانت تتبنّى خط التجاهل والتقليل من أثر التحذيرات التي كانت تفيد بأن الأمر في طريقه إلى أن ينتقل إلى مجلس الأمن. الغريب أن هذه النخبة ما لبثت أن أحسّت بالصدمة عقب صدور قرار الإدانة والملاحقة.
نرى اليوم أنه ما زال هناك ما يمكن عمله من أجل تغيير هذه الصورة قبل أن تندمغ في الأذهان، أو أن تترتّب عليها إجراءات أو تحرّكات مضرّة، قد يكون منها تكثيف الانحياز للمليشيا التي تظهر نفسها وكيلاً للغرب.

Related News

