عالم في قبضة المجانين
Arab
4 days ago
share

يعيش العالم اليوم واحدة من أكثر مراحله خطورة وعبثاً، حيث تتصدّر المشهد قيادات سياسية لا يمكن وصف كثير من قراراتها إلا بالجنون المُمنهج، مجانين برتبة رؤساء دول يمارسون سلطتهم بعيداً عن أيّ ضابط أخلاقي أو قانوني؛ إنّهم رموز العصر الجديد لجنون الدولة.

لقد كفرت الشعوب، أو على الأقل، فقدت إيمانها الجماعي، بجملة من المفاهيم التي طالما تغنّى بها الغرب بوصفها إنجازات الحضارة الحديثة: حقوق الإنسان، الديمقراطية، حقوق الطفل والمرأة، العدالة الدولية، ومؤسسات الأمم المتحدة... مؤسسات ومفاهيم انكشفت على حقيقتها، كأدوات سياسية انتقائية، تُفعَّل في الوقت والمكان المناسبين، وفقاً لمصالح الدول الكبرى، لا وفقاً للقيم التي تدّعي تمثيلها.

لقد كانت حرب الإبادة الجماعية التي شنّتها إسرائيل على قطاع غزّة مثالاً فجّاً على غطرسة القوّة المجرّدة من أيّ عقل أو ضمير، بغطاء أميركي وغربي كامل، وبتواطؤ إعلامي وسياسي مُخجل، ورافق هذه الجريمة عدوان على لبنان وسورية، وحربٌ (إسرائيلية أميركية) ضدّ إيران، تُسوَّق بحجة منعها من امتلاك السلاح النووي، فيما يتم تجاهل أنّ إسرائيل نفسها ليست سوى ترسانة نووية كاملة، خارج أيّ رقابة أو مساءلة.

كلّ ذلك يتم وسط صمت أممي مُريب، وغياب تام لأيّ دور فعّال لمؤسسات القانون الدولي، من مجلس الأمن، إلى المحكمة الجنائية الدولية، إلى مجلس حقوق الإنسان. كأنّ العالم اليوم قد سلّم نفسه لنظام دولي تحوّل إلى مجرّد أداة في يد الولايات المتحدة، لحماية إسرائيل ومصالحها حصراً.

لقد أصبح مجلس الأمن رهينةً لحق النقض (الفيتو)، وتحديداً حين يتعلّق الأمر بانتهاكات إسرائيل، حيث القرارات الصادرة عن الجمعية العامة، رغم أهميتها الرمزية، بقيت بلا أثر عملي. أما المنظمات الإنسانية، مثل المنظمة الصحيّة و"الأونروا"، فقد أصبحت هدفاً للشيطنة لأنها ببساطة تقدّم الطعام والدواء للأطفال تحت الحصار.

تفعّل العدالة الدولية اليوم ضدّ أعداء الغرب فقط، بينما يُمنح حلفاء واشنطن الحصانة الكاملة، حتى من مجرّد الإدانة الإعلامية

أما المحكمة الجنائية الدولية وعدالتها الانتقائية، فلم تجرؤ على تقديم مسؤول إسرائيلي أو أميركي أو أوروبي رفيع للمساءلة الجنائية، رغم توفّر آلاف الأدلة، فالعدالة الدولية باتت تُفعّل ضدّ أعداء الغرب فقط، كما في حالة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بينما يُمنح حلفاء واشنطن الحصانة الكاملة، حتى من مجرّد الإدانة الإعلامية.

كذلك أُقصيَت مفاهيم "التحرر والاستقلال وتقرير المصير من اللغة الدبلوماسية السائدة، وحلّ مكانها خطاب أمني عنصري يتمحور حول "أمن إسرائيل" و"حقها في الدفاع عن نفسها"، وتهمة "معاداة السامية" لكلّ من يجرؤ على وصف ما يجري في غزّة بالإبادة الجماعية أو انتقاد "إسرائيل"، حتى وهي تمارس القتل الجماعي وتدمير البنية التحتية والحياة المدنية!

إلى أين يمضي المجتمع الدولي تحت عباءة الأمم المتحدة؟

 إنّ مستقبل المؤسسات الأممية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، يبدو قاتماً ما لم يحدث تدخل جذري، وهناك احتمالان رئيسيان: أن تتحوّل هذه المؤسسات إلى هياكل جوفاء تردّد خطابات بلا سلطة، أو تستمر أدوات سياسية تُدار من واشنطن ولندن وتل أبيب، حسب ميزان القوى والهوى.

ومع ذلك، لا تزال هناك فرص تاريخية للإنقاذ، خصوصاً إذا ما تحرّكت القوى الدولية غير المنخرطة في المنظومة الغربية التقليدية (الجنوب العالمي) نحو بلورة نظام موازٍ، أو إصلاح مؤسسات النظام الحالي من الداخل.

لا يكفي الغضب أو التنديد من غالبية دول العالم الصامتة، خصوصاً العربية والإسلامية، بل المطلوب اليوم تفكير استراتيجي، وحلول جذرية تشمل: إصلاح الأمم المتحدة جذرياً، وتوسيع مجلس الأمن ليشمل قوى ناشئة تمثّل الجنوب العالمي، تقييد استخدام الفيتو، خصوصاً في القضايا الإنسانية، وفرض آليات مساءلة حقيقية على الدول التي تنتهك القانون الدولي باسم الأمن.

والأهم توافق عالمي على نقل مقرّ الأمم المتحدة من الولايات المتحدة إلى جنيف أو فيينا، مثلاً، أو حتى إحدى دول عدم الانحياز، لضمان حيادية مؤسساتها وتحريرها من الهيمنة الأميركية، وهي خطوة رمزية ولكن ذات دلالة كبيرة.

إما أن تتحرّك الإنسانية جمعاء لإنقاذ ما تبقى من الضمير العالمي، أو نترك هذا الكوكب في قبضة مجانين السلطة إلى أن يحترق بالكامل

وكذلك تأسيس تحالف إنساني دولي بديل، يضم دولاً وشعوباً مستقلة، لإنشاء "محكمة ضمير" تصدر تقارير وتحقيقات مستقلة، تُعيد الاعتبار للحقّ خارج المؤسسات المخترقة، وإحياء دور المجتمع المدني العالمي: مثل النخب الفكرية، الجامعات، الحركات الطلابية، والناشطين، فجميعهم مدعوون اليوم لبناء جبهة عالمية لفضح خطاب النفاق الدولي وإعادة تعريف معاني التحرّر والعدالة والكرامة.

وبناء سردية حقوق عالمية جديدة، ليست غربية ولا استعمارية، بل إنسانية شاملة، تستمد مشروعيتها من نضالات الشعوب المستعمَرة والمضطهَدة، وتستعيد مفهوم "التحررّ" بوصفه جوهر الحداثة، لا نقيضها.

لا مستقبل للبشرية في ظلّ الجنون السياسي الدولي، فالعالم اليوم رهينة لقادة يتّخذون قرارات تزرع الموت وتنزع الشرعية عن كل ما هو أخلاقي أو قانوني، لكن الخطر الأكبر لا يكمن في جنونهم وحدهم، بل في صمت العالم! 

ما نحتاجه ليس مجرّد إصلاحات إدارية، بل ثورة فكرية وقانونية وأخلاقية عالمية، تُعيد تعريف معنى النظام الدولي، وموقع الإنسان فيه، فإما أن تتحرّك الإنسانية جمعاء لإنقاذ ما تبقى من الضمير العالمي، وإما أن نترك هذا الكوكب في قبضة مجانين السلطة إلى أن يحترق بالكامل.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows