أطفالنا وسلطة أينشتاين
Arab
5 days ago
share

حسب منطوق المادة الأولى من الاتفاقية الأممية لحقوق الطفل: "يعني الطفل كل إنسان لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره". ما يعنينا هنا هو نهايات مرحلة الطفولة، بين سن 14 و18 سنة، وهي مرحلة المراهقة بامتياز، بقدر ما هي دقيقة وصعبة، فإنها تظل حاسمة في تشكيل وعي الأطفال وبناء مستقبلهم، خصوصاً لدى تلاميذ السنة الإعدادية الختامية أو الثانية بكالوريا، وفق النظام التربوي المغربي.

لماذا الحديث عن هذه الفئة تحديداً؟

لأنها تقف أمام اختيارات مصيرية ترسم مستقبلها، وغالباً ما يُصادر حقها في اتخاذ هذه القرارات. إذ تفرض عليها أحياناً خيارات معينة من قبل الوالدين بشكل مستبد، من دون مقاومة تُذكر، حيث ينسحب أطفالنا بشكل علني من معركة القرار، ويخضعون لما يُعرف بـ"سلطة أينشتاين"، التي تختار لهم المسار الدراسي المناسب، غالباً علوم رياضية أو فيزيائية، ويُعتبر غير ذلك فشلاً ذريعاً.

بعد اختيار المسار "الأكثر جدوى"، يبدأ الوالدان التخطيط للهدف الدراسي والاجتماعي الأسمى تحت شعار "طبيب - مهندس". هنا، رغم استقلالية ميول الأطفال، تُسلب منهم حرية الاختيار، وتتحول حياتهم إلى مختبر "لأحلامٍ تبخرت في زمن ومكان آخرين". الأبوان يستنسخان ميولهما المعرفية وطموحاتهما الاجتماعية، ويربطون نجاح أبنائهم بها.

يرى معظم الآباء أطفالهم كامتداد لهم، مثلما يملكون منزلًا أو سيارة، دون الاعتراف باستقلالية وجودهم

يرى معظم الآباء أطفالهم امتداداً لهم، مثل ما يملكون منزلاً أو سيارة، من دون الاعتراف باستقلالية وجودهم. وهنا يكمن الخلل: مهما بلغت قدسية الرابط الدموي، هناك استقلالية حقيقية في الرغبات والميول والتطلعات. لا يجوز أن نتعامل مع أطفالنا بمنطق الملكية، نقرر عنهم من دون احترام لذواتهم.

إذا نظرنا إلى وضعنا نحن المغاربيين، لا تختلف حالتنا كثيراً عن جيراننا، نجد أن مصادرة الاختيار تبدأ مبكراً، منذ السنة الثالثة إعدادي، حيث يُجبر كثير من الطلاب على اختيار المسار العلمي بغض النظر عن قدراتهم أو ميولهم. يزيد من تعقيد المشكلة النظرة الاجتماعية السلبية لمسار الآداب والعلوم الإنسانية، الذي يُعتبر مسار المتعلمين العاديين والكسالى، وبلا آفاق مهنية.

هذا التقييم فيه من الصحة ما يفسره ضعف المناهج وغياب التكوين المهاري، وتطبيع الغش المدرسي، على عكس الأنظمة التعليمية المتقدمة التي تواجه الغش بإجراءات صارمة، وتتيح فرصاً متعددة للتكوين المهني. ويرتبط هذا بواقع اقتصادي وسياسي أكبر، كما يبين النموذج الخليجي الذي يستثمر النمو الاقتصادي في تطوير التعليم.

لا شك أن هناك مبررات اقتصادية واجتماعية تدفع الأسر لفرض المسار العلمي، واعتبار الطب والهندسة مقياس النجاح. لكن هذا يهدد العلاقات الأسرية إذا لم يتحقق الهدف، ويتم استصغار باقي التخصصات التي قد تصنع قضاة حكماء، محامين مبدعين، اقتصاديين مرموقين، أو دبلوماسيين بارعين مثل وزير الخارجية المغربي.

يكثر في مجتمعنا الأطباء والمهندسون غير المتفوقين، والفشل لا يرتبط بهم ذاتياً بل بغياب الميول ومسايرة اختيارات خاطئة. يقول ديل كارنيجي مبتكر التنمية الذاتية: "لا يمكن تحقيق النجاح إلا إذا أحببت ما تقوم به"، وهذا يتماشى مع نظرية الذكاءات المتعددة.

أستحضر قصة طبيب مغربي حصل على بكالوريا علمية بمستوى مقبول لم تؤهله لولوج كلية الطب، فضغط عليه والده الطبيب بشدة لتحقيق حلمه، فأعاد الدراسة وحصل على البكالوريا العلمية الحرة بميزة جيدة، ولج كلية الطب، لكنه بعيد عن التميز المهني.
قصص كثيرة كهذه تكرّس المثل الشعبي المغربي: "حرفة بوك لا يغلبوك".

ما زالت "سلطة أينشتاين" تطارد أبناءنا تُمارَس بغطاء أبوَي يُغلفه الحرص، لكنها في جوهرها قمع ناعم للحرية

للأسف، ما زالت "سلطة أينشتاين" تطارد أبناءنا، تُمارَس بغطاء أبوَي يُغلفه الحرص، لكنها في جوهرها قمع ناعم للحرية.

بينما تبقى شعبة الآداب والعلوم الإنسانية في المخيال العام "ملاذ الضعفاء"، تُستباح رمزياً، رغم أنها من أنجبت مفكرين وثواراً ونقّاداً ومبدعين، لا تزال قلة من الطلاب تتشبث بها، بإرادة حرة وأحلام كبيرة، تصطدم في النهاية بمنظومة طبقية ناعمة، حيث "أبناء القضاة والمحامين والصحافيين" يُعاد إنتاج نجاحهم داخل شبكات النفوذ.

لكن السؤال الجوهري هو:

لماذا نصر على رؤية أطفالنا بالأبيض والأسود فقط؟

لماذا نخشى أن نحترم أحلامهم، أن نمنحهم حريتهم في أن يكونوا؟

لماذا نُصر على إعادة تشكيلهم وفق مقاسات لم تعد تناسب هذا العصر؟

ربما لأننا نراهم امتداداً لنا، لا ذواتاً مستقلة. نُسقط عليهم فشلنا ونعلّق عليهم أحلامنا، ننسى أنهم أفراد يعبرون الحياة مثلنا، لهم ما لنا وعليهم ما علينا. وفي غمرة هذا الإلحاح على النجاح بمعاييرنا، نُخمد شعلة التميز بداخلهم، ونغتال ذكاءاتهم المتعددة.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows