
في قلب مخيم الجندي المجهول للنزوح وسط مدينة غزة، حيث تصطف الخيام، بزغت نغمة أطلقها طلاب معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى، لعلّها تعد بالحياة وسط الموت والخراب. تضم فرقة الشمال ما يزيد عن ثلاثين طالباً وطالبة، تم انتقاؤهم بعد عام من التدريس المتواصل والتدريب اليومي داخل مخيمات النزوح عازفين على آلات موسيقية عدة.
نشأت فرقة الشمال التابعة لمعهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى في غزة من وسط الركام والدمار الذي خلفته الحرب المتواصلة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لتحمل رسالة عنوانها "الموسيقى أقوى من الحرب... والأمل لا يُقهر".
يقف مُدربو المعهد، الذين اعتادوا تدريب طلبتهم قبل الحرب داخل مقر المعهد المجهز بأحدث الإمكانيات، أمام طلبتهم بإمكانيات أبسط خلقتها ظروف الحرب، ليشقوا بالآلات الموسيقية والأنغام طريقاً في الركام نحو الفن، بعد عام من التدريب المضني، وسط ظروف أقل ما توصف به أنها مستحيلة.
تقول الطالبة فايزة سلمان (16 عاماً) النازحة من مدينة بيت لاهيا إلى مدينة غزة إنها التحقت بالفريق خلال نزوح أسرتها إلى مدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة للتدريب على آلة العود، وقد واصلت التدريب حتى اللحظة، فيما اكتسبت العديد من المهارات التي طورت موهبتها. تشير سلمان، في حديث إلى "العربي الجديد"، إلى أنها بدأت بالتدرب على أساسيات العزف على العود، إلى جانب التدرب على قواعد الجوقة وعدد من الأغاني الشعبية والتراثية، مثل "يما مويل الهوى"، و"هز الرمح بعود الزين"، ومجموعة من الألحان الخاصة بأعياد الميلاد وموسيقى بتهوفين. توضح سلمان أنها تتدرب يومين في الأسبوع، يبدأ التدريب على الآلات، ومن ثم إلى الجوقة والغناء بطريقة صحيحة. تصف أوقات التدريب بأنها اللحظات الأكثر أمناً وراحة خلال الحرب: "هي لحظات مستقطعة من الخوف والخطر والجوع والآلام اليومية، وتشبه الزهرة التي تنبت من بين النيران".
يوافقها في الشعور نفسه الشاب ياسين القبط، فتمثل له لحظات التدريب على الموسيقى والغناء مساحة منفصلة عن الواقع الصعب الذي سبَّبه العدوان الإسرائيلي، إذ ترك التدريب أثره الإيجابي على حالته النفسية، بعد أن تمكن من فصله ولو مؤقتاً عن الواقع القاسي الذي يمر فيه برفقة أسرته. يوضح القبط لـ"العربي الجديد" أنه بدأ بالتدرب على الآلات الموسيقية منذ عام خلال رحلة نزوح عائلته في مدينة خانيونس، وقد واصل التدريب بعد عودة النازحين إلى مدينة غزة ضمن فريق متكامل، وُلد من بين المخيمات ومراكز النزوح ليمثل بصيص أمل من وسط الألم والقتامة. يشير القبط إلى أن التدريبات المتواصلة مكنته من العزف والغناء بمفرده وجماعياً، بعد تدريبه على المقامات الصوتية وعزف الأغاني. يقول: "الميزة الأساسية للعزف والغناء وسط الحرب أنه يحاول معالجة الآثار النفسية الكارثية التي أصبنا بها جميعاً، ولا أشعر بالسعادة الحقيقية إلا لحظة بدء التدريب".
بدوره، يلفت مدرب فرقة الشمال في معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى والمشرف عليها، إسماعيل داود، إلى أنه أُقيم مخيم لتدريس الموسيقى والعزف على الآلات الموسيقية والغناء في حي الرمال وسط مدينة غزة، الذي يضم نازحين من مختلف مناطق شمال القطاع.
يوضح داود أن خيمة التدريب التابعة لمعهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى في غزة تشهد تدريباً مكثفاً لقرابة 30 طالباً وطالبة من أعمار تراوح بين 7 إلى 22 عاماً على آلات العود والغيتار والكمان والناي والطبلة، إلى جانب مجموعات الجوقات الغنائية الخاصة بالتدريب على الأغاني الشعبية والفلسطينية.
يلفت داود إلى أن فرقة الشمال جاءت نتاج تدريب متواصل على مدار عام كامل في مخيمات النزوح، إذ اختير عدد من الطلبة المميزين والملتزمين بتدريبات العزف والغناء الفردي والجماعي والمقطوعات الموسيقية والمقامات الصوتية، وجُمعوا في الفرقة التي واصلت التدريب رغم الظروف الصعبة. يقول إن التفاعل الكبير للطلبة وتقبلهم للموسيقى منح المعهد والمدربين حافزاً كبيراً للمواصلة في ظل الظروف الصعبة والمسؤوليات والمتطلبات اليومية التي يعيشها المدربون والمتدربون، وقد صنع فريق الشمال عدة إنتاجات فنية ووصلات تراثية، منها "راجعين يا هوى"، و"بكتب اسمك يا بلادي"، و"نسم علينا الهوى"، و"عام جديد على منوال ليلة عيد".

Related News

