
في لحظة احتفالية بالغة الرمزية، وبينما كانت الألعاب النارية تضيء سماء واشنطن احتفالاً بيوم الاستقلال، وقع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مساء الرابع من يوليو/تموز 2025، على أضخم قانون للموازنة في تاريخ الولايات المتحدة الحديث. لكن ما بدا في الصورة الرسمية انتصاراً سياسياً للحزب الجمهوري، يكشف في مضمونه عن تحول جذري في أولويات الدولة الأميركية: من حماية الفئات الأضعف إلى تمكين الأكثر ثراء، أي أثرياء "وول ستريت" وهوامير أسواق المال.
ففي مقابل تخفيضات ضريبية دائمة تقدر بمئات المليارات من الدولارات، ستُسحب ملايين العائلات الأميركية من مظلة "ميديكيد" للتأمين الصحي، وسيُقلص دعم الغذاء والإعانات النقدية، وتُرفع كلفة المعيشة، وتفرض شروط صارمة على برامج كانت حتى الأمس القريب تعد صمام أمان لملايين المواطنين. وبحسب تقديرات مكتب الميزانية في الكونغرس، فإن نحو 12 مليون أميركي سيفقدون تغطيتهم الصحية خلال سنوات قليلة، بينما تستأثر أعلى 1% من السكان بأكثر من تريليون دولار من المكاسب الضريبية. هذا القانون، الذي وصفه ترامب بـ"الكبير والجميل"، لا يعبر فقط عن رؤية اقتصادية محافظة، بل يعيد تعريف عقد المواطنة الأميركي: من يستحق الدعم؟ ومن عليه أن يتحمل العبء؟ الإجابة، كما تقول الأرقام، واضحة: "الفقراء". الذين يتحملون وحدهم أعباء معيشية تأتي في وقت لا يزال معدل التضخم يمثل قلقاً لصانع السياسة النقدية ويؤجل قرار خفض أسعار الفائدة من قبل مجلس الاحتياط الفيدرالي " البنك المركزي الأميركي".
حرمان صحي لـ 12 مليون أميركي
لم يكن قانون الموازنة الجديد مجرد تعديل مالي، بل نقطة تحول كبرى تجاه الرعاية الصحية. فبرنامج ميديكيد الذي شكل لعقود أحد أعمدة شبكة الأمان الاجتماعي، خضع لتعديلات جذرية تلزم المستفيدين القادرين جسدياً على إثبات العمل أو الالتحاق ببرامج تدريبية شرطاً للاستمرار في التغطية، مع منح الولايات صلاحيات أوسع لتحديد معايير الاستحقاق وتقليص التمويل الفيدرالي المخصص له. ووفقاً لتقديرات مكتب الميزانية في الكونغرس، من المتوقع أن تؤدي هذه السياسات إلى خسارة نحو 12 مليون أميركي لتغطيتهم الصحية خلال العقد المقبل، معظمهم من العمال ذوي الأجور المنخفضة، وكبار السن، وذوي الإعاقة والنساء العازبات، والأقليات العرقية. وقد دفع ذلك جمعيات الأطباء والاتحادات الصحية الأميركية إلى إطلاق تحذير مباشر عقب إقرار القانون، حيث نقلت وكالة رويترز عن هذه الجهات قولها إن "التمرير المفاجئ للقانون سيسبب أضراراً واسعة النطاق لملايين الأميركيين، ولا سيما ذوي الدخل المنخفض الذين يعتمدون على ميديكيد". ووصفت الجمعيات هذه التعديلات بأنها تمهد لحرمان صحي منظم سيضغط على النظام الطبي برمته.
وفي الولايات الأكثر فقراً مثل لويزيانا وألاباما، بدأت المستشفيات المجتمعية بالتعبير عن مخاوفها من موجة إغلاق مرتقبة، في ظل التراجع المنتظر في المدفوعات الفيدرالية للمستفيدين. كما أظهرت بيانات مؤسسة كايزر فاميلي أن كل تخفيض بنسبة 10% في مخصصات ميديكيد يؤدي إلى زيادة بنسبة 18% في زيارات الطوارئ غير المؤمنة، ما يرفع التكاليف التشغيلية على المستشفيات ويضعف كفاءة الرعاية. وقالت عضو مجلس النواب ألكساندريا أوكاسيو كورتيز إن هذا القانون يمثل أكبر فقد للرعاية الصحية في تاريخ الولايات المتحدة.
خيارات صعبة
يحمل القانون الجديد انعكاسات مباشرة على ملايين الأميركيين في حياتهم اليومية. فمن جهة، سيحصل العديد من الأسر والشركات على تخفيضات ضريبية مستمرة؛ إذ يمدد المشروع معظم الإعفاءات الضريبية التي أقرت عام 2017 ويجعلها دائمة بعد أن كانت ستنتهي بنهاية هذا العام. على سبيل المثال، سيتم رفع قيمة ائتمان ضريبة الأطفال من 2000 دولار حالياً إلى 2200 دولار لكل طفل سنوياً للحيلولة دون تراجعها إلى 1000 دولار في 2026. كما يمنح إعفاءات ضريبية جديدة لبعض الفئات، مثل العمال الذين يتقاضون إكراميات أو يعملون لساعات إضافية، حيث يسمح باقتطاع جزء من تلك الضرائب.
هذه التخفيضات قد تعني احتفاظ الأسر متوسطة الدخل ببضع مئات من الدولارات سنوياً إضافية، مما يساعدها على تغطية نفقاتها أو الادخار. لكن بحسب "رويترز"، ستفوق الخسائر في الرعاية الصحية أي توفير ضريبي قد يحصل عليه محدودو الدخل من القانون، فبالنسبة لعشرة في المئة الأدنى دخلاً في البلاد، سيعني القانون انخفاضاً متوسطه نحو 1600 دولار من دخلهم السنوي بسبب فقدان المساعدات، وهو ما يمثل تراجعاً بنسبة 3.9% في مواردهم. هذه الفئة تحديداً ستواجه خيارات صعبة بين الإنفاق على الضروريات كالغذاء والسكن والرعاية الصحية مع تقلص الدعم الحكومي.
يشمل التأثير أيضاً معونات الغذاء للفقراء عبر برنامج "سناب" المعروف بطوابع الغذاء، إذ سيعيد القانون هيكلة تمويل البرنامج بتحميل بعض الولايات جزءاً من الكلفة. حالياً تغطي الحكومة الفيدرالية كامل تكاليف "سناب"، لكن ابتداء من 2028 ستلزم الولايات ذات نسب الأخطاء المرتفعة في إدارة البرنامج بتحمل 5 - 15% من مصروفاته. إضافة إلى ذلك، سيوسع القانون متطلبات العمل لمتلقي مساعدات الغذاء بحيث يرفع السن الأقصى المعفاة من شرط العمل من 54 إلى 64 عاماً. وهو ما يعني أن بعض كبار السن الفقراء (بين 55 و64 عاماً) سيفقدون أهلية الحصول على دعم الغذاء إذا لم يعملوا أو يلتحقوا ببرامج تدريب، ما قد يؤثر على مستويات الفقر وانعدام الأمن الغذائي في هذه الفئة العمرية الهشة.
"سرقة معكوسة"
من ناحية أخرى، لن يشعر جميع الأميركيين بالتأثير بشكل متساو. فالأُسر الميسورة وأصحاب الدخول المرتفعة هم أكبر المستفيدين من التخفيضات الضريبية في هذا القانون، بينما يتحمل محدودو الدخل العبء الأكبر من التخفيضات في البرامج الاجتماعية. ويقدّر مختبر الميزانية بجامعة ييل أن دخول شريحة الـ 20% الأفقر ستنخفض بنسبة بين 2.5 و 2.9% على المدى الطويل، في حين ستزيد دخول الـ 20% الأغنى بنحو 2.2%.
وبحسب تحليل مكتب الميزانية في الكونغرس، ستكون الخسارة الصافية في الدخل هي الأكبر لدى أفقر 10% من الأسر (بمتوسط 1600 دولار سنوياً)، في حين ستتمتع أغنى 1% من الأسر بمكاسب ضخمة تصل إلى متوسط 29 ألف دولار سنوياً نتيجة التخفيضات الضريبية. حتى إن معهد السياسات الضريبية والاقتصادية قدر أن إجمالي ما ستكسبه شريحة الـ 1% الأعلى دخلاً يتجاوز تريليون على مدى عشر سنوات من هذه التخفيضات الضريبية، وهو رقم يفوق ما سيوفره القانون عبر اقتطاعات ميديكيد خلال الفترة نفسها. وهذا التفاوت الكبير دفع خبراء لوصف سياسات ترامب بأنها "سرقة معكوسة على طريقة روبن هود"، وهي أخذٌ من الفقراء لإعطاء الأغنياء، وفقاً للغارديان. كما أنها أيضاً بمثابة نقض للوعد السياسي الذي قطعه ترامب بخدمة الأسر العاملة والكادحة.
خسائر أكبر من المنافع
يقدر مركز الميزانية والأولويات السياسية، أن التخفيضات المقترحة ستترك ذوي الدخل المحدود أسوأ حالاً، لأن الخسارة في المنافع أكبر من المكاسب الضريبية لتلك الفئات. فعلى سبيل المثال، الأسرة العاملة الفقيرة التي ستفقد مئات الدولارات من مساعدات الغذاء أو الرعاية الصحية لن يعوضها توفير بضع عشرات من الدولارات في ضرائبها، مما سيجبرها على خفض إنفاقها على الغذاء والملبس وربما حتى الوقود. وهذا الانخفاض في الاستهلاك لن يقتصر تأثيره على تلك الأسر فقط، بل يمتد إلى الاقتصاد المحلي في المجتمعات ذات الدخل المنخفض، حيث ستعاني المتاجر الصغيرة ومال التجزئة ومقدمو الخدمات تراجُعَ الطلب وإنفاق الزبائن، وهو ما يؤثر سلباً على الإنتاج الصناعي.
ويحذر الاقتصادي الأميركي، جون ريكو، من مختبر ميزانية ييل بأن الأميركيين منخفضي ومتوسطي الدخل سيكونون في أسوأ حال في المتوسط تحت هذا القانون، بحسب الغارديان، الأمر الذي يعني تآكل قدرة شريحة كبيرة من المستهلكين على الإنفاق وزيادة الهشاشة الاقتصادية للكثير من العائلات. وإذا ما ترافق ذلك مع ارتفاع أسعار الفائدة، فسيواجه المستهلكون أيضاً تكاليف أقساط أعلى على القروض وبطاقات الائتمان. وتظهر بيانات معهد الضرائب والسياسة الاقتصادية، مركز بحثي مستقل مقره واشنطن تم تأسيسه 1981، أن أغنى 5% سيحصلون وحدهم على 44% من إجمالي التخفيضات الضريبية، بينما ستحصل الشريحة الأفقر 20% على 1% فقط منها، وهو ما يعني انعدام العدالة في توزيع المنافع، فكلما ارتفع السلم الطبقي زاد نصيب الفرد من ثمار القانون، وكلما انخفض الدخل قل نصيبه، بل ربما أصبح سالباً.

Related News


