نيشتا جين مُكرَّمة في "فيدادوك 16": أنْ يحكي الواقعُ نفسَه بنفسِه
Arab
6 days ago
share

 

إحدى أهم لحظات الدورة الـ16 (13 ـ 18 يونيو/حزيران 2025) لـ"المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي بأكادير (فيدادوك)" كامنةٌ في تكريم المخرجة الهندية نيشتا جين (1965)، وعرض آخر فيلمين لها: "الخيط الذهبي" (2022) و"زراعة الثورة" (2024).

الأول عن معمل عملاق لإنتاج أكياس الخيش من نبتة الجوت، يقع بالقرب من كالكوتا. حتى تنأى بفيلمها عن خطيئة الريبورتاج الصناعي، تنتقل جين، جيئة وذهاباً، بين جمال الطبيعة، حيث يقتلع المزارعون نبتة الجوت، ويستخلصون منها الألياف الأولية، وسمفونية صوتية وبصرية لآلات قديمة، تدور من دون كلل لتحوّل الألياف الجافة إلى أكياس، ما يتطلّب جهداً جباراً وغير آدمي من عمال (تُذكّر حركاتهم الآلية بتحفة شارلي شابلن "الأزمنة المعاصرة"، 1936) يتقاضون أجراً بالكاد يكفي لتلبية حاجاتهم الأولية. هناك تقارير أفضت إلى أنّ حوادث الشغل تتركّز في الأيام العشرة الأخيرة من كل شهر، بسبب نقص تركيز العمال عند تفكيرهم في كيفية تدبّر مصاريف البيت، وتكاليف دراسة أبنائهم. كعادتها، لا تُدرج جين أي تعليق صوتي، مُفضّلة صوت الآلات وتعليقات نادرة لعمال: "إنه فضاء بوجهين. غير أنّ الشعرية البصرية ينبغي ألا تنسينا ضرورة رؤية معاناة الإنسان"، كما تقول.

تندرج الهيكلة السردية لـ"الخيط الذهبي" في رؤية مينمالية وفنية للوثائقي، عبّر عنها قولٌ مشهور للمخرج البرازيلي ألبيرتو كافالكانتي (1897 ـ 1982): "كي تُنجز وثائقياً عن مكتب البريد، يكفي أنْ تتّبع مسار الرسالة". تتّبع جين مسار خيط الجوت في فضاءات مفعمة بتفاصيل عيش العمال، لتمسك بتلابيب عالمٍ في طور الاختفاء، بحكم أنّ هذه المصانع تقفل الواحد تلو الآخر في السنوات الأخيرة.

في المشهد الأخير، تُشيّع الكاميرا آلةً لم تعد صالحة للعمل إلى مثواها الأخير في سوق المتلاشيات، فتُصوَّر عملية نقلها من المعمل إلى شاحنة تنتظرها في الخارج، مُركّزة على آثار الفراغ الذي تركته في أرضية المعمل، بعد عقود من العمل المتواصل. لعلّ هذا المشهد يُجسّد إحدى الحالات النادرة لإضفاء آدمية على آلة في تاريخ السينما، ويحيل إلى "هال 9000" في "2001: أوديسا الفضاء" (1968) لستانلي كوبريك.

أنثروبومورفية (إسباغ صفات ومشاعر ونيات بشرية على كيانات غير بشرية) تفتح فجوة للتفكير في اختفاء المعامل الصناعية، باعتبارها آخر اختلاجات العصر الصناعي الميكانيكي ورافده البشري، قبل حلول حقبة هيمنة تكنولوجيا الروبوت والخوارزميات المستغنية، بشكل شبه كلّي، عن تدخّل الإنسان.

في امتزاج السياسي بالجمالي، يذهب "زراعة الثورة" (2024)، الفيلم الثاني المعروض لها في المهرجان نفسه، إلى قلب احتجاجات المزارعين، المستمرة لعامٍ، ضد قوانين الزراعة التي سَنّتها الحكومة الهندية. تجمّع أكثر من نصف مليون متظاهر في مواقع احتجاج ضخمة، انتشرت على تخوم نيودلهي، عام 2020.

تلتقط جين خطابات الزعماء النقابيين، وتجعل من حكمتهم (رغم أنّ جُلّهم غير متمرّس) ملحمةً تتقدّم بالحكي، وتُقرّب المشاهد من روح التشبث الفطري للهنود بأراضيهم، اقتداءً بشخصيات هندية، يرفع صورَها المتظاهرون، وأوّلهم بهجت سينغ، الثوري الهندي الذي حارب المستعمرين البريطانيين، وأُعدم شنقاً وهو يبلغ 23 عاماً. تغدو الطبيعة (رياح عاتية، أمطار، إلخ) بدورها عنصراً مُهماً في سرد ملحمة تآلف وتناغم بين رجال ونساء من كلّ الأجيال والأديان والطبقات والطوائف، تقبض عليها نيشتا جين بفضل حسّ بارع في التقاط فسيفساء الوجوه والألوان، ولغة النظرات الصامتة، وتدين به لمدير التصوير والمخرج المشارك، أكاش باسوماتري.

 

 

تحرّك الرياح العاتية خيام المتظاهرين، في صورة بلاغية عن الأخطار المحدقة بحركة الفلاحين، والتحدّيات المصيرية التي تواجهها، وفي مقدمتها معركة التأثير في الرأي العام. يواكب "زراعة الثورة" جهود خلية لكتابة نشرات إخبارية عن الحركة وفلسفتها وأنشطتها المرتقبة، يشرف عليها فريق تحرير شاب. بإمكانات قليلة وجهود ذاتية، يواجه الفلّاحون بروباغندا إعلامية ضخمة لوسائل الإعلام الرسمية، الساعية لتشويه سمعة حركتهم السلمية، بالتبئير على سلوكات معزولة، وقراءات منحازة وموجّهة لصُور وفيديوهات.

تُسلّط المخرجة الضوء، بشكل غير مباشر، على ثيمة قابلية الصُّور للتوظيف والتلاعب، وكيف أنّ التركيز على وجهة نظر من دون تقديم أخرى، أو تقديم مونتاج لحدثٍ بعينه، يمكن أنْ يفضيا إلى قراءة غير منصفة لمعارك عادلة. يدفع هذا إلى التساؤل عن إخلاص رؤية جين نفسها للسعي لعكس حقيقة هذه المعركة غير المتكافئة، وعمّا إذا لم يكن انحيازها المشروع للفلّاحين، باعتبارهم طرف المعادلة الأضعف، أثّر برؤيتها للحكومة اليمينية لمودي، وأضفى عليها شيئاً من الشيطنة.

لكنّ عدسة "زراعة الثورة"، المُركّزة على وجوه المتظاهرين وأعينهم المثقلة بالأسئلة القلقة عن مصيرهم، والسعي الدؤوب للنساء، من وراء الستار، إلى توفير الخبز الكافي لسدّ رمق المتظاهرين، ومظاهر التكافل والتآزر بين الفلاّحين رغم قلّة ذات اليد، هذا كلّه يُعيد دائماً ضبط دفّة قيادة هذا الوثائقي المؤثّر في الإنسانية بمعناها الأولي والواسع، الحاضر في معالم من تاريخ بوليوود، كـ"أمّنا الأرض" (1957)، ميلودراما محبوب خان التي تُظهر تمسّك الهنود بأرضهم، ومحورية دور المرأة في بناء المجتمع، كما تذكر إحدى النساء اللواتي تُصوّرهن جين. تقول المرأة أنْ لا حركة اجتماعية يمكنها النجاح من دون أنْ تكون النساء في قلبها.

حبّ الحياة، الغناء، العزف، وحضور الفنّ بشتى أنواعه على منصات تجمّع الثوار المزارعين، أمورٌ توضح عراقة هذا الشعب، الضاربة في التاريخ التي أسعفته في معركة غير متكافئة مع قوى رأسمالية، ترمي لجعل الفلاحين عبيداً وحلقة ضعيفة في سلسلة إنتاج المتاجر الكبرى. انتصر المزارعون في هذه المعركة، لكنّ حرب الرأسمالية عليهم لم تنتهِ بعد.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows