تشهد أوروبا تحولاً تاريخياً في مواقفها تجاه الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، إذ بدأت جدران الدعم الغربي التقليدي لتل أبيب بالتصدع، ليس فقط في الشارع، بل في دوائر صنع القرار أيضاً. في ألمانيا، أظهر استطلاع أن ثلاثة من كل أربعة مواطنين يؤيدون وقف تصدير الأسلحة لإسرائيل، فيما أعلنت إسبانيا رسمياً عن إلغاء عقود تسليح بقيمة تفوق ربع مليار يورو، ضمن خطة لفك الارتباط العسكري والتكنولوجي مع تل أبيب.
لم تعد هذه المواقف مجرد أصداء لتظاهرات أو تغريدات غاضبة، بل تحولت إلى سياسات ملموسة تعبر عن تحول في الوعي الشعبي الأوروبي، وتعلن بصوت مرتفع أن زمن "الدعم المطلق" قد ولى. من مدريد إلى برلين، ومن كوبنهاغن إلى لندن، تسود موجة جديدة من الوعي الأخلاقي والسياسي تعيد تعريف العلاقة مع إسرائيل على ضوء ما يجري في غزة من دمار إنساني وخرق ممنهج للقانون الدولي.
لم تعد هذه المواقف مجرد أصداء لتظاهرات أو تغريدات غاضبة، بل تحولت إلى سياسات ملموسة تعبر عن تحول في الوعي الشعبي الأوروبي
فهل نحن أمام نهاية للإجماع الأوروبي؟ وهل باتت العزلة الدولية خياراً واقعياً يُفرض على إسرائيل بعدما فقدت "هالتها الأخلاقية" في عيون شعوب الغرب؟
الأرقام تتحدث: تراجع غير مسبوق في التأييد
استطلاع رأي أجرته مؤسسة "يوغوف" في ست دول أوروبية كبرى، كشف أن نظرة الأوروبيين إلى إسرائيل باتت أكثر سلبية من أي وقت مضى:
- تتراوح النظرة الإيجابية إلى إسرائيل بين 13% و21%.
- تتراوح النظرة السلبية بين 63% و70%، وهو الفارق الأكبر في تاريخ هذه الاستطلاعات.
وفي التفاصيل:
- في ألمانيا، الفارق لصالح النظرة السلبية بلغ 44 نقطة مئوية.
- فرنسا: 48 نقطة
- الدنمارك: 54 نقطة
- إيطاليا: 52 نقطة
- إسبانيا: 55 نقطة
- المملكة المتحدة: 46 نقطة
أما نسبة من رأوا أن "إسرائيل كانت محقة وتصرفت بشكل متناسب" فانخفضت إلى:
- 6% فقط في إيطاليا
- 16% في فرنسا
- ونسب مماثلة في باقي الدول
في المقابل، ارتفعت نسبة المتعاطفين مع الفلسطينيين لتصل إلى 33%، في مقابل تأييد لا يتجاوز 18% لإسرائيل في أفضل الحالات.
ما وراء الأرقام: لماذا يتغيّر المزاج الغربي؟
التحول الشعبي الجارف لا تمكن قراءته بمعزل عن ثلاثة أسباب رئيسية:
1. وحشية الحرب في غزة
منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، قُتل أكثر من 54 ألف فلسطيني، غالبيتهم من النساء والأطفال، في عمليات عسكرية وصفتها منظمات دولية كـ"هيومن رايتس ووتش" و"أمنستي" بأنها ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية. الصور القادمة من غزة فجّرت موجة غضب أخلاقي تجاوزت حدود النخب إلى الشارع الأوروبي العريض.
2. خرق وقف إطلاق النار
في مارس/آذار 2024، خرقت إسرائيل اتفاق وقف إطلاق النار، مما عزّز قناعة متزايدة لدى الأوروبيين بأن تل أبيب لا تسعى لحلول سياسية، بل إلى تحطيم بنية المجتمع الفلسطيني.
3. انكشاف السردية الإسرائيلية
في عصر الإعلام المفتوح، لم تعد إسرائيل قادرة على احتكار الرواية. شهادات الناجين، تقارير المنظمات الدولية، والصور الميدانية قلبت ميزان السرد، ونزعت الغطاء الأخلاقي عن السياسة الإسرائيلية في عيون الرأي العام.
من الشارع إلى القرار: حين يتكلم الغضب بلغة السياسة
لم تبقِ أوروبا هذا التحول حبيس استطلاعات الرأي.
- إسبانيا لم تكتف بإلغاء صفقات السلاح، بل دعمت رسمياً الاعتراف بدولة فلسطين.
- البرلمان الأيرلندي صوّت لصالح فرض عقوبات على إسرائيل.
- المحكمة الاتحادية العليا في ألمانيا وافقت على النظر في قانونية صادرات السلاح إلى إسرائيل، في سابقة قانونية ذات أبعاد سياسية.
التحوّل الأميركي: تصدّع في الجبهة الداعمة
الولايات المتحدة لم تبقَ بمنأى عن هذا التحوّل.
استطلاع لمركز "بيو" أظهر أن 53% من الأميركيين باتوا ينظرون إلى إسرائيل بسلبية، تغيّر نوعي في بلد طالما وفّر لإسرائيل دعمًا غير مشروط.
في الجامعات الأميركية، باتت الأصوات الشبابية أكثر جرأة في فضح الاحتلال، وتقديم مطالب واضحة لقطع التمويل والدعم.
ثلاثة سيناريوهات للعلاقة الأوروبية – الإسرائيلية
في ظل هذا التحوّل الشعبي والسياسي، تبدو ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل العلاقة:
1. تصاعد العزلة السياسية والدبلوماسية (الأرجح)
- الاعتراف بدولة فلسطين
- فرض قيود على تصدير الأسلحة
- دعم لجان تحقيق في جرائم الحرب
هذه الإجراءات قد تأتي تدريجياً، لكنها تجد دعماً متنامياً يصعب تجاهله.
2. استمرار الدعم الرسمي رغم الغضب الشعبي
بعض الحكومات قد تُبقي على دعمها لإسرائيل تحت ضغط التحالفات الجيوسياسية، لكن هذا المسار يزداد كلفة مع قرب استحقاقات انتخابية حساسة في أكثر من بلد.
3. محاولات إسرائيلية لتحسين الصورة دون تغيير فعلي
خطوات رمزية، تحقيقات شكلية، وخطاب إعلامي مهدّئ، استراتيجية مألوفة لإسرائيل، لكن فعاليتها تتضاءل في زمن الوعي الرقمي والتوثيق الحيّ.
من الدعم الأعمى إلى مساءلة مفتوحة
التحوّل الجاري ليس مجرد تراجع في الشعبية، بل انهيار لغلاف أخلاقي طالما أحاط بالسياسات الإسرائيلية في الغرب. الرأي العام لم يعد يكتفي بالتنديد، بل بدأ في مساءلة السياسات، وطرح أسئلة جوهرية حول الاحتلال، والعدالة، وحقوق الإنسان.
ربما لن تتحوّل أوروبا إلى خصم لإسرائيل بين ليلة وضحاها، لكنها بدأت فعلياً في خلع القفازات، وفتح ملفات ظلّت مغلقة لعقود. وللمرّة الأولى، تبدو العزلة الدولية احتمالاً واقعياً لا مجرد شعار سياسي.
Related News
