هدنة غزة: قراءة في الحسابات الإقليمية والدولية
Arab
6 days ago
share

في الشرق الأوسط، لا تمثّل الهدنات مجرّد اتفاقات تُوقّع على الورق، بل هي انعكاس دقيق لخريطة المصالح والنفوذ المتشابكة. والنقاش المتزايد حول هدنة مرتقبة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل في قطاع غزة لا يمكن عزله عن التحوّلات العميقة التي تعصف بالإقليم، ولا عن التوازنات الحسّاسة التي تُدار بعناية في الكواليس الدولية. إنها لحظة مفصلية، تُظهر بوضوح كيف تتقدم الحسابات البراغماتية على المبادئ، وتُقدم المصالح الاستراتيجية على العدالة.

الهدنة المقترحة، وفق مصادر متعدّدة، تتضمن وقفاً مؤقتاً لإطلاق النار، وتبادلاً للأسرى، وانسحاباً مرحلياً من مناطق محددة داخل القطاع، مقابل ترتيبات إنسانية محدودة. ورغم أن هذه البنود قد تبدو إنجازاً شكلياً، فإن جوهرها يعكس واقعاً مختلفاً: إدارة مؤقّتة للأزمة، لا مقاربة جذرية لحلها. فالهدنة، في هذا السياق، ليست نهاية للصراع، بل مجرد إعادة ضبط لإيقاعه وتجميد لجمره تحت الرماد، في انتظار تغير الظروف أو تبدّل الحسابات.

من الواضح أن قوى إقليمية فاعلة، أبرزها مصر وقطر وتركيا، تبذل جهوداً حثيثة لتثبيت هدنة قد تُنقذ ما تبقى من المشهد الفلسطيني المتصدع. مصر، بحكم موقعها الجغرافي وحدودها المشتركة، تبدو الأكثر حرصاً على منع الانفجار الشامل، انطلاقاً من إدراكها لتداعيات أي تصعيد على أمنها القومي. في المقابل، تلعب قطر دور الوسيط النشط، مدعومة بثقلها المالي والدبلوماسي، ما يمنحها تأثيراً ملموساً في مسارات التفاوض. أما تركيا، فترى في هذا الملف فرصة لترسيخ دورها كفاعل إقليمي مؤثر، في إطار سعيها لتعزيز نفوذها في المشهد السياسي الشرق أوسطي.

هذه التحركات لا تنطلق من فراغ، بل من حسابات دقيقة تتعلّق بالحفاظ على الاستقرار الإقليمي، والحد من الانكشاف السياسي، واحتواء التداعيات الاجتماعية والأمنية التي قد تطرق أبواب الداخل. لذلك، تأتي مقترحات الهدنة مجتزأة، تركز على إدارة آثار الكارثة، من دون التطرق إلى جوهر المعاناة الفلسطينية أو معالجة أسبابها العميقة.

تخشى واشنطن على صورتها الدولية ومكانتها في نظام عالمي مأزوم، لا على الفلسطينيين وحقوقهم

أما الولايات المتحدة، التي تبدو راعياً للوساطة، فهي في الواقع تمسك بخيوط اللعبة من خلف الستار، بتنسيق وثيق مع إسرائيل، وضغوط حثيثة على الأطراف العربية. هدفها المعلن هو وقف الحرب، لكن غايتها الحقيقية هي وقف تبعاتها، التي بدأت تهزّ الساحة الداخلية الأميركية وتحرّك الرأي العام العالمي ضد ازدواجية المعايير. تخشى واشنطن على صورتها الدولية ومكانتها في نظام عالمي مأزوم، لا على الفلسطينيين وحقوقهم. لذلك، تسعى إلى هدنة تنقذ إسرائيل من مأزقها السياسي والعسكري، وتمنع انفلات الوضع نحو فوضى شاملة قد تقوّض مصالحها في ظل صراعها المتصاعد مع روسيا والصين.

في المقابل، تتعامل إسرائيل مع الهدنة كتكتيك عسكري لا يحمل في طياته أي تحول استراتيجي. حكومتها اليمينية المتطرّفة تسعى إلى هدنة بلا أثمان سياسية أو التزامات تُذكر تجاه غزة أو الضفة الغربية. هدفها تخفيف الخسائر، وامتصاص الغضب الداخلي، وإعادة ترتيب الأوراق، لا مراجعة المشروع الصهيوني الذي بدأ يتآكل من الداخل. ولعل ما تخسره إسرائيل اليوم يتجاوز ساحة المعركة، ليشمل تآكل شرعيتها الدولية، وتراجع ثقة حلفائها، وتزعزع جبهتها الداخلية.

ترفض غزة أن تتحول إلى مجرد ورقة تفاوض تدار بلغة التجاهل والتقاسم، وتُؤكد تمسكها بالحقوق الوطنية والكرامة السياسية

على الجانب الفلسطيني، لا تنظر الفصائل إلى الهدنة بوصفها تنازلاً أو انكساراً، بل كأداة سياسية لإعادة التوازن بعد أشهر من المواجهة، وفي ظل كارثة إنسانية خانقة. تسعى القوى الفلسطينية إلى تحقيق مكاسب ملموسة دون المساس بثوابت الصراع. وبينما يضغط البعض نحو وقف القتال بأي ثمن، ترفض غزة أن تتحول إلى مجرد ورقة تفاوض تدار بلغة التجاهل والتقاسم، وتُؤكد تمسكها بالحقوق الوطنية والكرامة السياسية.

ما يجري اليوم هو مشهد متعدد الطبقات، تتقاطع فيه الإرادات، وتتضارب فيه المصالح، وتُدار فيه المعركة على جبهات السياسة بقدر ما تدار على الأرض. الهدنة المرتقبة لا تشكّل مشروع سلام، بل محاولة لتهدئة السطح بينما تشتعل النيران في العمق. هي مرآة للعجز العربي، وتجسيد للمعايير المزدوجة في التعامل مع القضايا الإنسانية، وتضع الفلسطينيين – من جديد – أمام معركة الإرادة في مواجهة آلة الهيمنة والاستعمار.

وفي ظل غياب مشروع عربي موحّد، وتآكل ثقة الشعوب بالنخب الحاكمة، تبقى المقاومة – بكل تعقيداتها – التعبير الأصدق عن شعب يرفض أن يُكسر أو يهزم. قد تُفرض الهدنة، وقد يُجمد المشهد لفترة، لكن التاريخ لا يكتب بلحظات التهدئة المؤقّتة، بل بما تخلّفه من تداعيات، وما تُحدثه من تحوّلات على المدى الطويل.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows