
على مدّ البصر، من تونس، منبع الربيع العربي، وصولًا إلى المصبّ في مصر، تندلع هذه الأيام موجة شديدة الحرارة من الكفر بالمعارضة والتكفير بها، ليس مصدرها أروقة السلطة في البلدين، بل تأتي من هيئات حزبية ونقابية، كانت طوال الوقت، بحكم طبيعتها وتكوينها، منابر تنحاز للشعوب وتنأى بنفسها عن الخدمة في مطابخ الحكومات. ... في تونس خرج أمس عميد المحامين، حاتم مزيو، بتصريح لا يليق بتاريخ المؤسّسة التي يمثلها، حين قال:“ليس دورنا معارضة السلطة”. ولم يتوقف عند حدود التوصيف، بل ذهب إلى ما هو أبعد، حين أشار، ضمنيّاً، إلى الخوف من الاصطفاف في المعارضة بالقول "البعض يحاول دفعنا إلى معارضة السلطة"، وكأن الانحياز إلى صفّ المطالبين بالعدالة والحريات، صار شبهة يجب التنصّل منها، أو تهمة قد تُفضي إلى العزل أو التخوين.
وفي مصر، قطع المحامي العتيق والنقابي الإخواني القديم، مختار نوح، والذي سجن في زمن حسني مبارك ثلاث سنوات، متّهماً بتحويل نقابة المحامين إلى منصة للمعارضة الإسلامية، قطع شوطاً أبعد من ذلك، حينما تفوّق على الأجهزة الأمنية كلها في اختراع سيناريو لاتهام الإخوان المسلمين بالمسؤولية عن كوارث الطرق في مصر، معلناً أن "الإخوان" متورّطون في رشّ الزيت على الطرق لصناعة حوادث مرورية قاتلة، بهدف إحراج النظام.
يقول هذا العبث المسافر من تونس إلى مصر، بوضوح، إن المعارضة في نظر المعارضين المتقاعدين، القاعدين في حجور السلطة، باتت رجساً من عمل السياسة، لتتحوّل كلمة “معارضة” إلى فزّاعة يخشاها حتى من يفترض أنه في الصف الأول لحماية التوازن بين السلطة والمجتمع. حين كانت البلاد تُحكم بالحديد والنار في عهد بورقيبة ثم بن علي في تونس، لم يتردّد المحامون في الاصطفاف مع المظلومين، ليس لأنهم معارضة حزبية، ولا ينبغي لهم أن يكونوا، بل لأنهم كانوا ضمير المجتمع. والأمر نفسه ينطبق على رجال المحاماة في مصر، إذ كانوا في الصفوف الأمامية للدفاع عن الكرامة، لا يسألون عن لون الضحية السياسي، بل عن حجم الانتهاك الذي لحق به. وفي ذلك الوقت، لم يكن عميدهم في تونس، أو نقيبهم في القاهرة يخاف من معارضة السلطة، بل كان يراها امتداداً لدور المحاماة الطبيعي: الانتصار للعدل، لا للحاكم.
تأخذ المسألة شكلاً ساخراً شديد العبثية، عندما ينشأ حزب جديدة يطفو مع سابقيه فوق مستنقع الحياة الحزبية الآسنة في مصر، مقدّماً نفسه منذ اللحظة الأولى على النحو التالي"هذا الحزب ليس موالاة ولا معارضة وليس مدرسة فكرية واحدة، هو كيان جامع لجمهورية جديدة قوامها تحالف 30 يونيو". ... هكذا جاء تعريف الحزب على لسان واحد من أبرز قياداته، والذي يشغل، في الوقت نفسه، منصباً حكوميّاً، رئيساً للهيئة العامة للاستعلامات، التي هي ذراع استخباراتية إعلامية للسلطة الحاكمة. يحفل الحزب، مثل غيره من الأحزاب التي لمعت مثل النجوم المعدنية على كتف النظام العسكري بعد الانقلاب على السياسة والثورة قبل أكثر من عشر سنوات، يحفل بكثيرين من الجنرالات الكبار والصغار، في سياق عسكرة المجال العام، بحيث يكون الحكم عسكرياً خالصاً، ومعارضة الحكم (الشكلية) أيضاً عسكرية حتى النخاع، حيث امتلأت الساحة بعددٍ لا نهائيٍّ من أحزاب السادة اللواءات، المتقاعدين حديثاً وقديماً، كلها تحمل أسماء أقرب للعسكرية "حماة الوطن" و"فرسان الوطن" .
ومن العبثية إلى العدمية، انتقلت الحكاية، على يد حزب الوفد، الذي يعرف تاريخيّاً بأنه وعاء الحركة المدنية المصرية في طورها الليبرالي، الرافض، إلى درجة العداء، دولة الضباط، إن في عصر الملكية، أو في زمن الجمهورية، لنكون بصدد فقرة ساخرة، بعد انقلاب صيفٍ شهدت تسكين الضباط، من مختلف الرتب، في المناصب العليا للحزب. المسألة لا تقف عند حد حزب الليبرالية، سابقاً، بل تجدها بصورة أكثر مدعاة للسخرية عند أحزاب اليسار الذي كان مشاغباً وحادّاً في معارضته، ثم جلس القرفصاء في الحديقة الخلفية للنظام العسكري، لا يقوم إلا لكي يهذّب العشب ويسقي نباتات أسوارها الشائكة، حتى وصلنا إلى مرحلة صار فيها وجود عنوان في صدر صحيفة حزب الوفد، المفترض أنه معارض، ضد قرارات الحكومة رفع الأسعار يوصف بأنه منتهى الجرأة والشجاعة إلى حد التهوّر من الصحيفة والحزب الذي تصدر عنه.
يبقى أنه في العمل النقابي، كما في العمل السياسي، لا يكون التنصّل من دور تاريخي، دفعت لأجله أجيال باهظ الأثمان، نأياً عن السياسة، بل سقوطاً في مستنقع السلطة، وتسابقاً على السمع والطاعة وفنون النطاعة.

Related News

