امتثالاً للرتابة
Arab
1 week ago
share

قالت السيدة الأربعينية، الدقيقة المنظّمة المتوقِّعة، التي لا تحبّ التغيير، وتربكها المفاجآت: لعلّ الأمر كان محض مصادفاتٍ متلاحقة، لست واثقة من ذلك تماماً، كلّ ما أعرفه أن محيطي الآمن المستقرّ، الذي لا يتعدّى حدود الحي الذي أقيم فيه لم يعد آمناً، ولا مريحاً كالسابق. لطالما تغنّيت بمزايا الإقامة فيه، وشجّعت المعارف على شراء الشقق هناك، لأن أسعارها مقبولة نسبياً لذوي الدخل المتوسّط، وقد علمت أن الحي مصنّف "ج" من أمانة العاصمة، وهذا ما يفسّر عدد المباني المتلاصقة المقامة في مساحاتٍ صغيرة تضمّ شققاً صغيرة كثيرة. وما يبرّر الطابع الشعبي الذي أصبحت تأخذه المنطقة، رغم وجود عدد لا بأس به من الفيلات والقصور الفخمة، أن أصحابها بدأوا بمغادرتها تباعاً إلى مناطق أكثر رقيّاً قبل هدمها، واستثمار الأرض في بنايات سكنية مطلوبة في السوق، تؤمّن لهم كسباً سريعاً وهروباً من تهمة الانتماء إلى الطبقة الوسطى.
أقمت في المنطقة منذ 14 عاماً، وشهدت تحوّلاتها السريعة من منطقة سكنية هادئة وادعة إلى مركز تجاري متكامل، ما أربكني في البداية، غير أني وجدت ذلك التحوّل مجدياً فلا يضطر السكّان للمغادرة بسبب توافر جميع الخدمات اللازمة، إذ أصبح فيها العديد من المدارس الحكومية والخاصّة، ودور الحضانة من أجلّ الأمهات العاملات، ومراكز طبية للحالات المستعجلة، وعيادات أطباء متخصّصين، ومكاتب هندسية، ومكاتب محامين، ومولات، ومحطّات وقود، ومحلات ملابس، ومحلات تصليح وصيانة السيارات، ومقاه ومطاعم وفنادق، ومعرشّات بطيخ، وصرّافون، وكلّ ما يحتاجه المواطن في حياته اليومية.
اعتبرت محلّ إقامتي محيطي الآمن المستقرّ، الذي وقاني شرّ الازدحام المروري المستمرّ في مختلف مناطق العاصمة، وأغناني عن استخدام السيارة مسافاتٍ طويلة، ووفّر لي إمكانية التواصل المباشر مع مختلف نماذج البشر، ونسج شكل لطيف غير مكلف من العلاقات الإنسانية، التي لا تتعدّى تبادل التهاني في الأعياد، والتحيّات الودية، والحديث عن الطقس، أو التذمّر من ارتفاع الأسعار، والتعليق المقتضب على أحداث الساعة. أحسست بأن عالمي الصغير الآمن، الخالي من الأحداث الكبيرة، قد بدأ في التصدّع، حين مشيت في أحد الصباحات بعد غياب قسري إلى مقهاي الصغير الذي اعتدت ارتياده. كنت أجلس في زاوية محدّدة، يعرف العاملون فيه من شباب وصبايا جامعيين نوع قهوتي، وسرعان ما يحضّرونها مبتسمين حال ظهوري. وصلت حيث المقهى الذي تحوّل إلى خرابة مهجورة. نزعت اللافتات، وأزيلت المقاعد والطاولات، والديكورات كافّة، وقد تدلّت عند الواجهة الزجاجية لافتة مكتوب عليها بحروف كبيرة "المحلّ برسم البيع". قاومت إحساسي بالخسارة، وقرّرت الذهاب إلى المركز الرياضي المجاور، الذي حوّلته صاحبته من بيت سكني قديم إلى مركز رياضي بسيط، ترتاده سيّدات المنطقة، كان فضاءً حميماً تتشكّل فيه الصداقات بسهولة. وجدت الباب الخارجي مغلقاً بواسطة جنزير ثخين، وقد ثُبِّتت على القضبان السوداء يافطة تفيد بأن العقار للبيع بداعي السفر.
بحثت عن أذيال الخيبة كي أجرجرها في طريقي إلى البيت، قبل أن تصلني رسالة من البنك تفيد بأن إدارة البنك تُعلم السادة العملاء بإغلاق الفرع في المنطقة، وتقترح زيارة أقرب فرع بديل. قلت لنفسي مواسية: "لعلّها أكبر المصائب"، عليّ أن أنبذ نظرية المؤامرة، وأن أصدّق أن الأشياء لا تتداعى نكاية بي شخصياً، وأن الأمر فعلاً محض مصادفات رتّبها واقع الكساد الاقتصادي، الذي يجبر بعض أصحاب العمل على اتخاذ قرار الانسحاب، وأن أكفّ عن اعتياد الأشياء والتعلّق المَرضي بالأمكنة، وأن أقبل بالتغيير جزءاً من سيرورة الحياة، وأن أشرع في كسر دائرة الثوابت الوهمية، التي قيّدتُ روحي بها إمعاناً في العزلة، وامتثالاً متواطئاً للرتابة والكسل.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows