
في قلب حي اللبّان الشعبي في مدينة الإسكندرية شمالي مصر، ترتفع تلة تُشرف على الميناء الغربي تُعرف باسم "كوم الناضورة". للوهلة الأولى، قد تبدو مجرد أرض مهملة تغطيها الأعشاب الجافة، لكنها في الواقع موقع أثري يعود إلى قرون عدّة، ما يجعلها من أبرز المعالم الإسلامية القديمة في المدينة.
شهدت التلة تحوّلات متعاقبة منذ القرن الثاني الهجري، ومرّت بعصور متعددة، من الحقبة الفاطمية إلى الاحتلالين الفرنسي والإنكليزي، وصولاً إلى عهد الأسرة العلوية. وتحتضن قبوراً لعدد من الصحابة والتابعين الذين وفدوا إلى مصر، فضلاً عن مبانٍ أثرية توثق هذه المراحل.
ورغم هذه القيمة التاريخية، فإن محيط التلة يعكس الإهمال: مبانٍ عشوائية، وورش تصنيع، وأكوام قمامة تحاصر المكان، بينما تفتقر المنطقة إلى الحد الأدنى من الحماية أو الصيانة. ويزيد الوضع تعقيداً كون التلة تقع وسط منطقة شعبية يصعب الوصول إليها، ما يستدعي إجراءات أمنية مشددة من قبل شرطة السياحة والآثار.
في حديثه إلى "العربي الجديد"، يقول المدير العام لآثار الإسكندرية، محمد متولي، إن "التلة تمتد على مساحة 6 أفدنة، وسُجّلت كأثر إسلامي بموجب قرار رسمي عام 1996. وترتفع 25 متراً عن سطح الأرض، وتُعرف أيضاً باسم 'كوم وعلة' نسبةً إلى التابعي عبد الرحمن بن وعلة المصري السبتي، أول من دُفن فيها أواخر القرن الثاني الهجري". ويضيف متولي أن "حفريات أُجريت بين عامي 1928 و1983 كشفت عن مقابر فاطمية بعمق 6 أمتار، وكسرات فخارية تعود إلى عصور مختلفة، أغلبها من العصر المملوكي، وجاءت من مصر والشام وتونس وفلسطين وغرناطة ومالطة".
من أبرز معالم التلة برج الإشارة الذي أُعيد بناؤه عام 1929 فوق أنقاض برج فاطمي قديم، إضافة إلى حجرة مقببة اكتُشفت عام 2007 أثناء أعمال الترميم. كما أمر نابليون بونابرت، خلال الحملة الفرنسية على مصر، ببناء طابية (حصن) على التلة عُرفت باسم "كافاريللي"، نسبةً إلى أحد مهندسي الجيش الفرنسي، لتكون نقطة مراقبة فلكية. وتضمّ التلة أيضاً مدافع تعود إلى عصري محمد علي باشا والخديوي إسماعيل تراكم الصدأ عليها، بالإضافة إلى مبنى "ثكنة المأمور الإنكليزي"، المبني على الطراز البريطاني باستخدام روابط معدنية.
غير أن كثيراً من سكان المنطقة يجهلون هذه الخلفية التاريخية. يقول جابر حسن (65 عاماً): "عرفت التلة منذ الطفولة، لكنّنا كنّا نراها مكاناً مهملاً. سمعنا من كبار السن أنها كانت موقعاً حربياً قديماً". وتؤكد نجلاء محمود، المقيمة في الجوار، أن الوضع بات مقلقاً: "الروائح الكريهة وخطر الانهيارات يجعلاننا نشعر بعدم الأمان. لو تحوّلت إلى مزار سياحي، سنكون أول المستفيدين".
في عام 2020، أطلق طلاب من جامعة الإسكندرية مبادرة "حكاية تاريخية" لتنظيف الموقع. يقول منسق المبادرة كريم السيد: "نزلنا بأنفسنا إلى المكان وجمعنا القمامة. تفاعل السكان معنا، لكننا لم نحصل على دعم رسمي". ويضيف: "التلة تُجسّد تطوّر المدينة زمن الحرب والتحصين، وتضمّ معالم نادرة مثل مرصد محمد علي وطابية كافاريللي".
وتشدّد هالة إبراهيم، وهي متطوعة في المبادرة، على أن "ما نحتاجه هو الإرادة لا الميزانيات الضخمة. كثير من الشباب مستعدّون للعمل، لكننا لا نستطيع فعل كل شيء وحدنا. التلة ليست مجرد كومة ترابية، بل شاهد حيّ على تاريخ الإسكندرية".
أما المهندسة سارة لطفي، المتخصصة في ترميم المباني التاريخية، فتحذّر من الوضع الإنشائي الحرج للتلة: "التربة رخوة، والبقايا المعمارية في حالة تآكل. استمرار الإهمال قد يؤدي إلى انهيار أجزاء منها خلال سنوات قليلة. ما يحدث ليس مجرد تقصير، بل جريمة في حق الذاكرة المعمارية والمعرفة التاريخية". وتقترح لطفي البدء بمسح هندسي وجيولوجي شامل، يليه ترميم دقيق وتأهيل بيئي، قبل التفكير في استقبال الزوار أو إدراج التلة ضمن المسارات السياحية.
من جانبه، يشير مدير الآثار في المنطقة، كريم عودة، إلى أن "الموقع مسجّل منذ أكثر من عشرين عاماً، لكنّ معوقات عديدة منعت تطويره، أبرزها التعديات العشوائية ونقص الاعتمادات المالية". ويؤكد أنّ خطة إعادة التأهيل جاهزة ضمن استراتيجية وزارة الآثار، وتشمل تركيب تليسكوب على قمة التلة وتجهيزات لاستقبال الزوّار، لكنها لا تزال معلّقة. ويشير إلى أن السلطات قررت إزالة بعض التعديات العمرانية المجاورة حفاظاً على الموقع، تمهيداً لإدراجه ضمن خريطة المزارات السياحية في الإسكندرية.

Related News


